سأبدأ بتوصيف المشهد الموجود في المنطقة قبل أن نتحدث عن التجاذبات الإقليمية وأثرها على المصالحة الوطنية في الحقيقة هناك بعض الأطراف من خارج العالم العربي أحيانا يكون لها قراءة غير دقيقة لثورات الربيع العربي وما حدث فيها، عندنا روجر وين المؤرخ البريطاني الشهير وأكاديمي له عدد من الكتب لخص مشكلة العالم العربي بثلاث جمل مختصرة فقال إن أنظمة الحكم الموجودة في العالم العربي اتسمت بثلاث سمات الأولى التبعية للغرب والثانية حكم القلة والثالثة الحكم دون مساءلة.

قضية التبعية للغرب هي ليست مشكلة مع أنظمة وطنية نختلف معها في تقدير المصالح والمفاسد والإنجازات والخسائر. هي ليست أنظمة نابعة من تاريخ هذه الشعوب وهويتها وحضارتها إنما هي أنظمة ورثت مرحلة الاستعمار المباشر وعملت على قتل الكفاءات الموجودة في الأمة وإهدار موارد الأمة وتعطيل هذه الأمة خدمة لمصالح رعاتها الخارجيين ولذلك على مدار التاريخ عندما كان يحدث أي حراك وطني او ثوري سرعان ما يأتي الخارج لدعم الطرف المحلي التابع له كما حصل في مصر في تجربة عرابي في نهاية القرن التاسع عشر عندما طالبوا ببرلمان يكون فيه نوع من المساءلة وحصلوا على هذه المطالب من الخديوي توفيق سرعان ما استعان توفيق بالإنكليز ودخل الإنكليز ليمكثوا في مصر سبعين سنة وكذلك نموذج الثورة السورية عندما أوشكت على أن تسقط بشار رأينا التدخل الإيراني ثم الروسي ثم تدخل أطراف دولية متعددة فالإشكال ليس مع نظام نتفق ونختلف معه إنما هذه الأنظمة هي جزء من منظومات إقليمية ودولية أوسع.

القضية الأخرى هي حكم القلة التي تريدأن تنفرد بالحكم وبالثروة وبالقرار ولا تريد أن تشرك معها أحد لذلك كانت محصلة كل التجارب الديمقراطية التي مرت بالعالم العربي انقلابات عسكرية يفتك بهذه التجربة رأينا في التجربة الجزائرية عام 1992 والمصرية في2013 وكان هذا بقبول وتوافق دولي.

القضية الثالثة هي الحكم دون مساءلة فالحاكم لا يريد لأحد أن يسأله ماذا تفعل ولماذا تفعل هذا؟ ففي مصر نموذج السيسي الذي يقول لا تسمعوا لأحد غيري!

هذا الأمر يختلف عن بعض الأوضاع الموجودة في دول إسلامية أخرى مثل تركيا التي شهدت انقلابات عسكرية سابقا كان يتم العودة إلى المسار السياسي فلا يوجد تزوير للانتخابات مثلا في عهد الجمهورية التركية منذ عام 1924  وما تأتي به صناديق الانتخابات هو المعتمد أما نسب الفوز بأكثر من 99 بالمئة كما يحدث في الدول العربية غير موجود في تركيا  لذلك الإشكالات الموجودة مختلفة  التوصيف الدقيق للمشهد الموجود في العالم العربي مختلف وفي رأيي إن الأزمة الموجودة في العالم العربي هي أن الثورات التي اندلعت في عام 2010 كانت إعلان أن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على تلبية احتياجات شعوبها وأن هذه الشعوب ضجت لذلك أتت الثورات المضادة لمحاولة تدمير هذه الثورات وجعل الدول التي شهدت ثورات نموذجا للفشل كي تخشى شعوب الدول الأخرى المطالبة بحقوقها وهذا الأمر منطبق في كل التجارب التاريخية فالثورة الفرنسية عندما وقعت حصل ما يسمى بحروب التحالف فالدول الأوروبية الأخرى تحالفت ضد فرنسا كمحاولة للقضاء على  هذا النموذج الثوري الذي كان يهدد عروش الملكيات الموجودة في أوروبا منذ قرون وبالفعل هدموا هذه الثورة ونفوا نابليون وأعادوا الملكية مجددا إلى فرنسا محاولة لترسيخ أوضاع الملكية لأنهم رأوا أن قيام ما يسمى بالشكل الجمهوري يهدد عروشهم  كذلك في دول الربيع العربي عندما حدثت قادت بعض الدول الإقليمية الثورات المضادة لأنها رأت في نموذج الثورات وامتلاك الناس لحقوقهم تهديدا عليهم  الدول الفاعلة حاليا في ليبيا لها علاقة في الوضع الراهن في  سوريا واليمن وهم الذين دعموا الانقلاب العسكري في مصر  فهي حلقة متكاملة وليست قضية تختص بدولة دون أخرى.

أدخل في لبّ الموضوع:

 الأدبيات الغربية التي تتناول مفهوم المصالحة كثيرا ما تتحدث عن قضية المصارحة والاعتراف وهو أن يعترف مرتكبو الجرائم أنهم فعلوا ذلك فعلا وأنهم نادمون وهو بالأساس تقليد كنسي مسيحي أثرّ على نظرتهم للمصالحة وفهمهم لها  في حين أن النموذج الإسلامي  يدعو إلى إصلاح  ذات البين لكن عندما ترفض جماعة ما المصالحة والاحتكام إلى صوت الشرع والعقل يكون الحل كسر شوكة هذه الفئة لإيصال رسالة لها أنها لا تستطيع أن تمضي قرارها ومواقفها على الآخرين هذا الأمر بين طائفتين من المؤمنين كلاهما يحمل هم الأمة ويسعى لنصرتها يختلفون على بعض القضايا لكن الإشكال الذي نواجهه في بلادنا أن هناك طائفة قرارها ليس بيدها بل تابع لقوى إقليمية ودولية وعندما ندخل إلى الملف الليبي بشكل محدد نجد أن هناك صراعا إقليميا ودوليا كافة القوى الفاعلة  تشترك وتنخرط في القضية الليبية وتريد أن توظف الانقسامات الموجودة وتزيدها من أجل تحقيق مصالحها المتنوعة بمعنى نعم ليس هناك في ليبيا سنة وشيعة أو عرب وأفارقة لكن هناك صراعات جهوية بين الشرق والغرب والجنوب هناك تنافس قبلي هناك صراع أيديولوجي بين قوى علمانية وأخرى إسلامية  بين قوى نظام قديم وقوى ثورية  هناك صراع على النفوذ ومن الذي يريد أن يحكم ويطبق هويته فكل هذه عوامل انقسام تحاول الدول الإقليمية والدولية استغلالها لترسيخ وتعميق هذا الانقسام  وبالتالي هذا يزيد من إشكالية المصالحة  فكثير من الأطراف الموجودة لا يتحرك بدافع وطني أو محلي بل يرتبط بداعميه الإقليميين والدوليين الذين لهم مصالح كبيرة  فروسيا مثلا تمثل لها ليبيا نافذه مهمة تحقق لها عدة مصالح جوهرية  فهي نافذة لروسيا إلى العمق الافريقي في ظل التصور الروسي للمرحلة القادمة فروسيا تريد تعزيز نفوذها في القارة الافريقية وتحاول إقامة قاعدة عسكرية لها في بور سودان لها وجود قوي في آسيا الوسطى كذلك ليبيا تمثل لها نافذة إلى العمق الليبي  ويجعل بيدها ورقة الهجرة غير الشرعية وأيضا ممر للجنوب الليبي مع عمق القارة الافريقية هو ممر مشهور لتهريب المخدرات وتجارتها التي تدر مليارات الدولارات وتستطيع من خلال وجودها في ليبيا تهديد النيتو الذي تستشعر تطويقه لها في أوكرانيا وجورجيا فهي الآن بتواجدها في ليبيا تقوم بالالتفاف من هلال أوسع وتهدد بذلك الجنوب الأوروبي وتجعل لها يد على حركة الملاحة في المتوسط الذي يتم من خلاله نقل قرابة  25% من بوارج حركة النفط عالميا كل هذه الأوراق تزيد من تأثير روسيا ونفوذها فلماذا تترك روسيا المشهد الليبي؟ كذلك الحال بالنسبة لفرنسا التي تعتبر الجنوب الليبي ومنطقة الساحل والصحراء مناطق نفوذ تاريخية لها تستفيد من موارد النفط والغاز والمعادن والثروات الطبيعية الموجودة في هذه الأماكن وكذلك فرنسا حريصة على وجود أنظمة تكون معادية للقوى الإسلامية هي لا تريد أنظمة وطنية ولا أنظمة إسلامية هي تريد أنظمة استبدادية ترى مصلحتها دائما مرتبطة بالقوى الدولية لذلك فرنسا لما نجدها في ليبيا والجزائر وحتى في مصر وسوريا هل دعمت في يوم من الأيام حراكا ديمقراطيا أو وسطاً ديمقراطيا؟ لا هي تدعم التوجهات الاستبدادية والأنظمة القمعية.  وكذلك إيطاليا لها نفوذ تاريخي وكذلك ومصر تريد منظومة معينة موجودة في ليبيا تقصي أي قوى ثورية أو إسلامية، تعتبر مثل هذه القوى تمثل تهديدا جيو استراتيجيا للنظام المصري الذي تقوم شرعيته على مكافحة القوى الإسلامية والتيارات الإسلامية، الولايات المتحدة الأمريكية تهتم بعدة ملفات منها تحجيم النفوذ الروسي ومنها ما يسمى بملف مكافحة الإرهاب فنراها كل فترة تقوم بقصف هنا وهناك في ليبيا ضد عناصر تتهمها بالضلوع بأنشطة مضادة للولايات المتحدة.  وهذا الوضع من التنازع بين القوى الإقليمية والدولية يجعل ليبيا ساحة لهذا الأمر ويصعّب من التوجه للمصالحة الوطنية ويصعب من الجلسات والاستماع، لكن يمكن التغلب على ذلك من خلال محاولة استقطاب بعض العناصر من هذا المعسكر أو ذاك التي لديها حد أدنى أو حد يمكن البناء عليه من القيم الوطنية والخلقية إن وجد لكن الكثير منهم مجرد أدوات للخارج وليس لديهم انتماء حقيقي للبلاد ولا يهمهم مصلحة البلد ولديهم استعداد لتدمير هذا البلاد مقابل أن يكونوا على رأس المشهد كما يحدث في سوريا الآن  فهذه نقطة مهمة يجب أن نستحضرها فالقضية ليست أن نجلس مع بعض ونسمع بعض الأمر فيه أطراف أوسع من ذلك أيضا الإخوة المحسوبون على الخط الثوري والتغييري لا يشترط أن نتحدث دائما على المصالحة والسلام بينما الطرف الأخر يحشد أنصاره على الانتقام وعلى الوحشية. فالنظام المصري مثلاً وبعد 8 سنوات نجده يصدر أحكاما أعدم 17 شخصا في رمضان وأصدر أحكام الاعدام على 12 شخص على الرغم من أن المشهد المصري مشهد هادئ طوال سنوات ليس في أحداث ولا مظاهرات منذ سنتين أو ثلاثة تقريبا نعيش في هدوء لكن النظام حدد هدفه في استئصال أي قوى ثورية أو قوى وطنية فأنا آتي في هذه اللحظة وأطرح فكرة أنني مع  المصالحة الوطنية هذه المصالحة تتطلب إرادة من كل الأطراف وتتطلب أن أكون واقعيا في طرحي أن أطرح الشيء المناسب في الوقت المناسب كي أحقق هدفي وأحيانا يكون ردع الخصم هو الذي يدفعه إلى القبول بالمصالحة والكلام بشكل أكثر واقعية وليس مناشدته وطرح بعض الشعارات الجميلة والفضفاضة. جزاكم الله خيرا.