
بسم الله الرحمن الرحيم … الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين قال تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم). فقد امتنّ الله على نبيه الكريم أن أيّده ونصره وألّف بين قلوب أتباعه وجعلهم أمة على قلب رجل واحد إذ مّا تتميز به الأمم القوية الوحدةُ الفكرية والعقَدية بينهم، وعندنا أهلَ الإسلام تتفوق الرابطة الإيمانية على غيرها من الروابط فالمسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على مَن سواهم. ومن الطبيعة البشرية التي جبل الله عليها الناس وابتلاهم بها هو النزاع والخصام بين الأفراد أو الجماعات البشرية ولذلك نزل القرآن وجاءت السنة بالأحكام التي تفقه الخصام وتبين الحقوق. والنفوس السوية والفِطر الصافية تعظّم الصلح بين الناس وتشيد به وتفخر بالساعين فيه، فهذا زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي صاحب المعلقة المشهورة يمتدح رجلين مصلحين في زمنه هما هرم بن سنان والحارث بن عوف فيقول:
فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حوله رجالٌ بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانَوا ودقّوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن بعيدين فيها من عقوق ومأثم
عظيمين في عليا معد وغيرها ومن يستبح كنزا من المجد يعظم
فالإصلاح بين المتخاصمين والسعي في اجتناب دواعي الفتن وأسباب فساد ذات البين واجب العقلاء، ومنزلة الصلح في الإسلام منزلة عظيمة اختصّ بها الأنبياء وعقلاء الناس وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مصلحا قبل البعثة وبعدها:
المصلحون أصابع جمعت يد هي انت بل انت اليد البيضاء
ومما جاء في السيرة أن قريشا عندما أعادت بناء الكعبة المشرفة ووصلت إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه في موضعه حتى قبضت بنو عبد الدار جفنة فملؤوها دماً ثم تحالفوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت فأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فغمسوها في الدم وذلك طلبا للحصول على هذا الشرف ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل العلم والرواية أن أبا أمية وكان كبير قريش وسيدها قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل عليكم من باب المسجد فلما توافقوا على ذلك ورضوا به دخل رسول الله فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر فقال: هلموا ثوبا فأتوه به فوضع رسول الله الركنَ فيه بيديه ثم قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوا جميعا فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه رسول الله بيده ثم بنى عليه فقطع النبي بحسن تصرفه ورجاحة عقله النزاع وحسم الحرب التي كادت تنشب بين قبائل قريش.
والحديث عن المصالحة حديث ذو شجون ولكن حسبي أن أوجز فيه بذكر أهم ما تجب العناية به في هذا الباب فأقول:
المصالحة في اللغة (مفاعلة) من الصلح ومنه الاشتراك بين طرفين أو عدة أطراف ومعناها السلم، والصلح اسم المصدر منه ولها مرادفات أخرى كالعهد والميثاق والهدنة والتوفيق. وقد رغّب القرآن في الصلح فقال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس). قال القاضي أـبو الوليد بن رشد: وهذا عامٌّ في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين.
والمصالحة تقع بين المسلمين وغيرهم من الأمم وتقع بين المسلمين مع بعضهم البعض فمما وقع بين المسلمين ما ذكر في سورة الأنفال وهو قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: ووقف الأمر في إصلاح ذات البين لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها (أي الأنفال) كما قال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فأمرهم الله بالتصافح وختم بالأمر بالطاعة والمراد بها هنا الرضا بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت).
ومن المصالحة التي تقع بين المسلمين وغير المسلمين ما ذكره الله تعالى في سورة الانفال أيضا: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) قال المفسرون: هي موادعة المشركين ومهادنتهم وقيل نزلت في قوم سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليهم. ثم نسخت بقوله (قاتلوا الذين لا يؤمنون) الآية.
وقيل أداء الجزية وقال الحسن: السلم الإسلام وقال الزمخشري: والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاحَ الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتمٍ أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا.
فلا بد للمجموعات البشرية من أوقات سلم يتعاطون فيها معايشهم المشتركة وينتقلون فيما بينهم لما لا بد لهم منه ويسلك في هذا المسلمون وغيرهم من الأمم.
والمصالحة بين المسلمين هي من أشد ما أكد عليه الشرع وحثّ عليه فأصل العلاقة بين المسلمين هي المحبة والنصرة والاجتماع وضد ذلك البغضاء والاحتراب والفرقة وإذا وقع الخصام بين المسلمين وقامت سوق الحرب وجب على المسلمين وجوبا كفائياً السعي بين المتخاصمين بالصلح بينهم، قال تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون).
عن عبد الله بن عباس قال: قال زيد فيقول الله تعالى (وإن طائفتان…) وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام أو النفر والنفر أو القبيلة والقبيلة فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحق الذي نزل في كتابه إما القصاص والقوّد وإما العقل والعير وإما العفو، فإن بغت إحداهما على الأخرى بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على الظالم حتى يفيء إلى أمر الله ويرضى به.
وأكد القرآن على الصلح حتى في علاقة الرجل بزوجه إذا وقع الخصام فقال تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشحَّ وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) قال ابن عطية وقوله تعالى: والصلح خير لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق.
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأُخبر رسول الله بذلك فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم ومما ورد في السيرة في صلح الحديبية ما رواه البخاري عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج رسول الله زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر به خالد حتى إذ هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس: حَل حل، فألحت فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس فيه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت وفيه ( أي في الحديث) فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي بكاتب فقال النبي بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها وقد سمى الله هذا الصلح فتحا لما ترتب عليه من المصالح التي حققها للمسلمين فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال أقمنا بالحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فسُرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنه أنزل عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا أخرجه البخاري قال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المسلمين اختلطوا بالمشركين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام ومما ورد في الحديث مما يرغب في الصلح والعفو بين المسلمين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال بينما رسول الله جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه فقال ابن عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما يا ربي خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله كيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء قال يا ربي فليحمل من أوزاري وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس أن يُحمل من أوزارهم فقال الله للطالب ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صدّيق هذا أو لأي شهيد هذا؟ قال لمن أعطى الثمن قال يا رب ومن يملك ذلك قال أنت تملكه قال بماذا قال بعفوك عن أخيك قال يا رب إني عفوت عنه قال الله فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة فقال رسول الله عند ذلك اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين. والحديث ضعّفه العلماء لكن قال ابن كثير عنه إسناد غريب وسياق غريب ومعنى حسن عجيب. والصلح يأتي بين الخصوم قبل أن يلجأ القاضي إلى الفصل في القضية بموجب الأحكام القضائية ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينكم الضغائن، فندب رضي الله عنه القضاة إلى الصلح ونبّه على المعنى وهو حصول المقصود من غير ضغينة.
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام ذكر أمور ينبغي العناية بها واستصحابها لأي جهد إصلاحي بين الناس وذلك لتقع المصالحة على الوجه الذي ترضاه الشريعة وتحسم مادة النزاع:
أولا الأصل في المصالحة أن تكون بمبادرة من العلماء والمصلحين وذوي النفوذ داخل المجتمع ولا تكون مفروضة من المنظمات الدولية والأنظمة ذات التاريخ المريب وإلى هذا الأمر يشير قوله تعالى: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فالحكمان هما من قرابة الزوجين ولهما مصلحة في حصول الوفاق بينهما.
ثانيا أن تكون المصالحة مبنية على قواعد العدل والبعد عن المحاباة يقول ابن القيم الصلح نوعان صلح عادل الجانب وهو ما كان مبناه رضا الله سبحانه وتعالى ورضا الخصمين وأساسه العلم والعدل فيكون المصالح عالما بالوقائع عالما بالواجب قاصدا للعدل كما قال سبحانه (فأصلحوا بينهما بالعدل)، وصلح جائر مردود وهو الذي يُحل الحرام أو يُحرّم الحلال كالصلح الذي يتضمن أكل الربا أو إسقاط الواجب أو ظلم ثالثٍ وكما في الإصلاح بين القوي الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضي المقتدر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ بينما يقع الإغماض والحيف فيه على الضعيف أو لا يمكّن ذلك المظلوم من أخذ حقه.
ثالثا أن يكون الصلح موافقا للشرع لا مخالفا له والموافق للشرع هو ما كان فيه الحق للعدل يصح له إسقاطه وذلك أن الحقوق فيما يقع بين المسلمين منه ما يكون فيه حق لله لا يجوز المصالحة على إسقاطه ومنه ما فيه حق للناس يجوز لهم المصالحة على إسقاطه كله أو بعضه ومنه ما فيه حق مشترك بين الله والعبد وقد اختلف الفقهاء فيه أيهما يغلَّب فالحدود من حقوق الله لا يجوز إسقاطها كحق القذف والزنا والردة، والقصاص في النفس والأطراف يجوز إسقاطه بعوض أو بدون عوض وكذلك الحقوق المالية يجوز إسقاط بعضها أو كلها.
وفي الختام أسأل الله سبحانه وتعالى الله أن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا اللهم أصلح ذات بيننا والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله.