
الإعلام في الحقيقة دوره مكمل الإعلام لا يشرّع قوانين ولا يتخذ قرارات في موضوع المصالحة ولكن الإعلام يقوم بدور أساسي في التنوير وبناء الوعي في ما يتعلق بقضايا الخلاف والتعايش المشترك هناك ثلاثة استراتيجيات تستخدم في عملية بناء السلام في الإعلام الاستراتيجية الأولى تتعلق بما يسمى بناء السلام وتحويل النزاعات إلى حالة من السلم الحذر كما حصل في ليبيا الآن يوجد وقف إطلاق نار لكن لا يوجد سلام في ليبيا هذا من حيث التعريف العلمي أو المنهجي هذا الدور الأول أو الاستراتيجية الأولى للإعلام في بناء السلام هناك تجارب كثيرة في الدول الأفريقية مثل أوغندا وزيمبابوى والكونغو الديمقراطية أيضا في البوسنة والهرسك كان هناك أدوار كبيره قام بها الإعلام في محاولة تحويل النزاع من حالة احتراب وتوترات إلى حالة خمول وسكون ومحاولة منع تجدد اشتعال النزاع وهذا يسمى عملية التحويل بأن تنقل النزاع من حالة حرب إلى حالة وقف الحرب وتبقى بعد ذلك عملية معقدة قد تستمر فترات طويلة فيها إجراءات عديدة منها بناء الثقة حتى نصل في مراحل متقدمة إلى موضوع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تأتي في حينها إنما نحاول أن نحول الاحتراب إلى حالة ساكنة ونحافظ على هذه الحالة حتى تتهيأ الظروف كما نحاول في ليبيا الآن وإن كان اتجاه العملية السياسية الآن في ليبيا مقلق يعني في حالة وقف إطلاق النار فقط وتطلق عملية سياسية مباشرة في أعلى مستوى.
اعتقد اليوم نحن في مرحلة وقف إطلاق النار ولا يوجد أي حالة سلام أو لا يوجد اتفاق سلام في ليبيا حتى الاتفاق الذي تم في تونس هو اتفاق سياسي وليس اتفاق حول حل القضايا الخلافية فقط هي محاولة للانتقال بليبيا كما يعتقد إلى مرحلة تكون أفضل وأكثر هدوءا من ناحية المؤسسات.
الإعلام اليوم بحاجة ماسة أن يمنع محاولة عودة التوتر الموجود حاليا إلى حالة حرب جديدة وهناك مجموعة أدوات ينبغي أن نستخدمها في الإعلام لمنع التوتر من أن ينتقل إلى احتراب.
حقيقة في عام 2014 عشنا حالة احتراب استمرت في مدينة برقة أربع سنوات ثم عملية فجر ليبيا في طرابلس ثم عملية الاعتداء على طرابلس في 2019 استمرت قرابة سنة وشهرين هذه العمليات من المتوقع أن تعود من جديد هناك عملية تحشيد من جديد في الجنوب سواء من قوات حفتر والقوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية بقرار من المجلس الرئاسي هناك.
اليوم كيف يمكن للإعلام أن يساهم في عدم ظهور توترات من جديد كما حدث في 2019 وانتهت إلى حرب كبيرة على العاصمة الليبية طرابلس أدت إلى تدمير جزء منها خاصة في جنوبها.
الإعلام اليوم على قسمين ما يسمى بالإعلام الجماهيري التقليدي المتمثل في الصحف والراديو والتلفزيون ويدخل في ذلك أيضا السينما والكتب وهناك ما يسمى بالسوشيل ميديا على وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر وغيرها وهذا ما يمكن أن نسميه عودة العصر الشفوي الذي ينذر بنهاية القلم والكتابة ولوحه المفاتيح. اليوم كل شيء تستطيع أن تسمعه أو تسجله بالصوت اليوم أدوات الإعلام التقليدي وأدوار تختلف تماما عن أدوات وأدوار الإعلام الأخرى على السوشيل ميديا تختلف في ما يسمى بناء السلام والمصالحة الوطنية أحد أهم الأدوار الذي ينبغي أن يقوم بها الإعلام التقليدي هو أول شيء إعادة ترميم السرديات؛ في ليبيا عندنا سرديات متناقضة كل قضية تتوقعها يوجد حولها خلاف لا يوجد شيء حوله اتفاق بين الليبيين مثلا لدي أصدقاء في غرب ليبيا حدثوني عن حقيقة الدور الذي قام به الشيخ عمر المختار أيضا لما تأتي ذكرى معركة القرضابية هناك من يدافع عنها وهناك من هو ضدها هناك من يرى أن قادتها وطنيون وهناك من يعتبرهم خونة وهكذا نستمر في كل التفاصيل سنجد إشكالات كبيرة في الحقبة الملكية في حقبة القذافي في حقبة فبراير لا يوجد سردية واحدة لليبيين الإعلام يمكن أن يساهم في بناء هذه السردية عن طريق ما يسمى الدراما والفن مثلا نحن نعرف تأثير مسلسل التغريبة الفلسطينية في بناء وعي أجيال كثيرة جديدة لا تعرف شئيا عن القضية الفلسطينية من خلال هذا المسلسل أعاد لهم وعي واضح للقضية الفلسطينية والمسلسل كان من إنتاج 2006. فيلم عمر المختار أيضا بنى سردية على موضوع الجهاد في ليبيا هو فيلم فيه كثير من الخيال كثير من الوقائع غير الصحيحة ولكن بنى سردية ليس عند الليبيين فقط بل عند العرب والمسلمين أصبح أي مسلم تتكلم له عن عمر المختار وهو يتمثل شخصيته في الفيلم فقط هو لم يقرأ كتابا في سيره عمر المختار وكوّن من خلال الفيلم سردية متعلقة بالجهاد الليبي ارتبطت بفلم عمر المختار.
اليوم الأتراك أيضا يبنون سردية جديدة لتاريخهم من خلال مسلسلات مثل أرطغرل وتأسيس الدولة العثمانية والحملات البحرية وما إلى ذلك وتم بثها في أكثر من 70 دولة في العالم بلغات تلك الدول في أمريكا الجنوبية في آسيا في الهند في أوروبا وفي المنطقة العربية أيضاً.
اليوم الإعلام في ليبيا يمكنه أن يعيد بناء سردية تداولية في ليبيا يصنع تاريخا مشتركا لليبيين لا يمكننا أن نتنكره. في الحقيقة اليوم الخلافات نجدها حتى في كتابات النخبة والمثقفين هناك خلافات حول كل شيء لا شيء يتفق عليه يمكن للإعلام أن يلعب هذا الدور في إعادة بناء سردية لأن الناس في الغالب لا يقرؤون وإنما يشكلون وعيهم من خلال الإعلام بمختلف أشكاله يمكن جدا أن يشتغل الإعلام الليبي في بناء سردية تتعلق بالهوية الليبية والتاريخ الليبي والعيش المشترك وعلى فكرة مفهوم الهوية جزء منه أسطورة ليس حقيقة عندما يتحدث المتخصصون في موضوع الهوية هي مجموعة من الروايات غير المدققة عن التاريخ والحاضر يتم بناؤها في شكل سردية جمعية عن طريق الأدب والفنون فينتج عند الناس هذا الشعور بالاشتراك والتعايش في ما بينهم للأسف الإعلام في ليبيا أفضل ما ينتجه في مسلسلات في موسم رمضان فيها إشكالات كبيرة متعلقة في محاولة معالجة هذا الإنسان الاجتماعي النظرة للتاريخ النظرة للواقع والأمل في المستقبل عندنا آمال مختلقة وطموحات مختلفة في النظرة للمستقبل نحن كليبيين.
الأمر الثاني هو ما يتحدث عنه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس عندما تكلم عن نظرية المجال العام وكيف يمكن أن نشرك الناس فئات المجتمع وطبقاته في الحوارات المتعلقة بالقضية العامة وألا نحصرها بالنخبة التي عادة ما تكون مرتبطة بمصالح سياسية واقتصادية ومصالح ذات الانتماء القبلي أو العرقي وهذا كله يؤثر في الناس طبعا هذا الفيلسوف عندما وضع هذه النظرية قام بمحاولة لمعالجة آثار الحكم النازي هو ينتسب إلى مدرسة فرانكفورت النقدية وأيضا عندما درس الإعلام الأمريكي دراسة مستفيضة استمرت أكثر من عقدين وصل إلى هذه النتائج فأصابه الفزع من حالة الإعلام الأمريكي الذي يسهم في حالة الانقسام الدائم الأفقي والعمودي في المجتمع وخرج بنظرية المجال العام وهي أن يشرك الناس في الحوارات العامة بأسلوب فيه الكثير من العقلانية والالتزام الأخلاقي في الحوارات وليس عن طريق تأجيج العواطف وغيرها وفي تقديري هذا أمر مهم جدا.
إذا أردنا أن نتحدث عن الإعلام الجماهيري التقليدي الذي طبيعته أنه إعلام أعمى سلبي بمعنى المتلقي سلبي والمرسل لا يعرف حقيقة المتلقي ويُلقي أشياء في الهواء أما الإعلام الاجتماعي فالمتلقي فاعل هو يتفاعل والمرسل يستطيع أن يستهدف من خلال أدوات منصات الإعلام الاجتماعي فهناك مثلا عند جوجل أكثر من 99 أداة في الاستهداف ما يسمى الآن بالهوية الرقمية الشخصية عند جوجل هوية أكثر من خمسة مليار إنسان بالتفصيل الأكل الذي يحبه لون اللباس من خلال المايك الذي تتحدث فيه على جهاز هاتفك تفتح البحث في جوجل يعطيك في خيارات البحث ما كنت تتحدث عنه خلال يومك حتى في صفحة الأخبار العامة في جوجل اليوم هذه الأدوات تمكّن الإعلام الاجتماعي ومنصات التواصل يمكن أن تشتغل على بناء الوعي عند الناس اليوم أغلب من هم دون سن الأربعين تقريبا لا يتعاملون مع الإعلام الاجتماعي التقليدي كالتلفاز مثلا إلا في الدراما في التلفاز حتى الأخبار نعرفها من خلال السوشيل ميديا نحن نذهب إلى الصفحات الموثوقة بي بي سي مثلا على صفحاتها على منصات الإعلام الاجتماعي اليوم هذه المنصات يمكن أن تقوم بدور تنويري من خلال إعطاء المعلومات لأن الإعلام له وظائف معروفة التثقيف والإخبار والترفيه فمثلا جيلنا كنا نتابع في الثمانينات اجتياح لبنان من خلال ما يسمى الإعلام الملتزم ومن خلاله وصلتنا مجازر صبرا وشاتيلا في أغاني مارسيل خليفة والفرقة المغربية وغيرها هذا ساهم في بناء وعينا تجاه القضية الفلسطينية كثير من الفن في مصر بنى وعينا تجاه القومية العربية. وبالتالي فإن الإعلام التقليدي الجماهيري من خلال الدراما بشكل عام يمكن أن يسهم في بناء كل ما يتعلق بمصطلح الهوية والسردية الشعبية. اليوم نحن في ليبيا نحتاج هذا الأمر فيلم عمر المختار بنى وعينا تجاه الجهاد الليبي الجهاد الليبي توقف سنه 1931 طبعا بالإضافة إلى المرويات الشعبية التي كنا نسمعها في البيوت وكان النظام السابق يتعمد في مناسبات كثيرة أن يعرض هذا الفيلم في ذكرى استشهاده وفي أوقات أخرى خلال السنة وكنا لا نملّ من مشاهدته وأعطانا هذه السردية كنا نحفظ مقولات الشيخ عمر المختار حتى تلك التي لم يقلها(مثل نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت) هي كانت في سيناريو الفيلم طبعا الدراما دائما فيها جانب خيال، وليد سيف السينارست المشهور يقول لا يمكن أن تصل الحقيقة في الدراما إلى أكثر من 35% فإذا زادت لن تصبح دراما وإنما تصبح وقائع تاريخية الدراما أدواتها مختلفة هي تؤكد على الموضوع كان عندنا في ليبيا يعني أكثر من 20 فضائية 50 راديو محلي إذاعة محلية في مختلف المناطق. يمكن أن يؤسس إعلام خاص ممول من قبل أطراف الصراع أو الأطراف الدولية وظيفته العمل على بناء السلام والتمهيد للمصالحة الوطنية من الممكن أن نبدأ تجربة في إسهام الإعلام في بناء السلام لأن الإعلام لا يبنى سلام وإنما يساهم في بناء السلام أما السلام فهو مثلث يشترك فيه ثلاث جهات: الناس التنفيذيون يشتغلون يمشون في الأرض ويعملون حوارات ولقاءات وجلسات المصالحة والحقيقة، وهناك علماء وباحثون في الجامعات يحاولون دراسة كيف يمكن تحويل النزاع والحروب إلى حالة سلام ووئام إلى حالة خمود وسكون ثم إلى حالة سلام وأعلى مستويات السلام السلام العادل عندما يشعر الجميع أنه أخذ حقه وهذه مرحلة متقدمة جدا من السلام.
من الممكن للإعلام أن يلعب هذا الدور الكبير سواء في التنوير عبر الحوارات في المجال العام وإشراك الناس في هذه الحوارات أيضا من خلال مراقبة السلطة وهذا دور أساسي للإعلام الإعلام اليوم مقصر في ليبيا الإعلام منقسم يراقب سلطة الجهة الأخرى أو الطرف الآخر ويسكت عن الفساد والانتهاكات في الجهة التي هو فيها. إذا ارتفع الإعلام عن ذلك وأصبح عنده مسؤولية في مراقبة السلطة بعيدا عن الانحياز والغرضية عندها يمكن أن يسهم الإعلام في تهيئة الظروف في اتجاه المصالحة الوطنية وبناء السلام في ليبيا.