طوفان درنة .. الإيجابيات والسلبيات
لا شك ان الطوفان الذي ضرب مدينة درنة نتيجة لانهيار سدي وادي درنة والذي أعقب العاصفة المتوسطية المعروفة باسم دانيال كان كارثة بكل المقاييس فعدد الضحايا هائل والدمار غير مسبوق في مدينة درنة تحديدا وغيرها من القرى المجاورة ولكن المنح قد تكون كامنة في المحن والشعوب الواعية هي التي تحاول أن تتعلم من اخطاءها ومحنها ومصائبها وفي هذه المقالة سنحاول – بعد التعبير عن احر التعازي لأهل درنة وكامل شعبنا الليبي- مراجعة أبرز النقاط التي كشفتها هذه الجائحة إيجابية كانت ام سلبية وكيفية الاستفادة منها وسنحاول أيضا التذكير بأهم ما يجب القيام به شعبيا ورسميا لتلافي تكرارها في المستقبل
الإيجابيات
– اول الأمور الإيجابية والتي حدثت مباشرة بعد هذه الكارثة حجم التعاطف والتكاتف الشعبي في كل مناطق ليبيا مع درنة حيث حدثت هبة شعبية كبيرة لإغاثة المناطق المنكوبة وامتلأت الطرق المؤدية الى درنة بآلاف السيارات والشاحنات التي تحمل مختلف المواد الاغاثية وهب الشباب بالمئات للمشاركة في جهود الاغاثة هذه الهبة كانت مخلوطة بالمشاعر الوطنية التي عبر عنها الجميع بالكلمات والهتافات والدموع والتي تؤكد على وحدة الشعب الليبي شرقا وغربا وجنوبا
– وكردة فعل طبيعية كان الناس في شرق ليبيا يعبرون عن شكرهم وامتنانهم لهذه (الفزعة) بل عبر الكثير منهم عن اسفه عن مشاركته في القتال الذي حدث في السنوات الماضية وانتشرت الكثير من المقاطع والتغريدات التي يتعهد فيها الكثير من أبناء المنطقة الشرقية بعدم المشاركة في أي قتال داخلي مستقبلا
وكلا الأمرين يعبر عن صحوة ووعي جديد كانت الصدمة الناتجة عن الكارثة وردة فعل الناس وخاصة في غرب ليبيا العاملان الاساسيان في تشكله هذا الوعي الذي نسف في أيام معدودة ما قامت به ابواق الفتنة عبر سنوات من بث خطاب الكراهية والتحريض ووصف سكان المنطقة الغربية بشتى الاوصاف السلبية ذلك الخطاب الذي كان يهدف الى تمزيق وحدة ليبيا وتقسيمها والذي حاولت الجهات التي تقف خلفه تكريس وضع الانقسام السياسي عبر انشاء حكومة موازية في شرق ليبيا والمطالبة بحصة شرق ليبيا في ميزانية التنمية وتكريس انقسام المؤسسات السيادية وكل ذلك ان لم ينتهي بانقسام ليبيا الى دولتين وهذا امر قد ترفضه الدول الكبرى المؤثرة في الشأن الليبي – حاليا على الأقل – الا ان هناك من الدول الإقليمية من يسعى بشدة لتحقيقه او على الأقل الوصول بليبيا الى نموذج الدولة الكونفدرالية والتي هي عبارة عن دولتين تشتركان في التمثيل الدبلوماسي وبعد الوزارات السيادية.
– من الأمور الإيجابية التي كشفت عنها الكارثة أخذ الشعب الليبي عبر مؤسساته الشعبية زمام المبادرة وعدم انتظار التحرك الحكومي سواء في شرق ليبيا او غربها فرأينا المدن والقبائل وحتى النوادي الرياضية ورجال الاعمال والشركات الخاصة تتنافس في تقديم يد العون والمساعدة هذه الحيوية والسرعة في رد الفعل كانت مباشرة وكبيرة حتى قبل ان ينكشف الحجم الكبير للمأساة وهذه الإيجابية في التعاطي السريع مع الحدث يجب التأكيد عليها وتنميتها والمحافظة على استمرارها فهي من اهم العوامل التي تضمن المشاركة الشعبية والتأثير الشعبي مستقبلا ليس عند حدوث الكوارث فحسب بل عند كل امر يهم كل ليبيا دولة وشعبا وهو الامر التي تحرص على الحكومات المستبدة والفاسدة على عدم حدوثه والحد منه
ان الشعوب الحية والايجابية والمتفاعلة مع الاحداث هي وحدها الشعوب التي يصعب على الطغاة تدجينها وترويضها ويصعب على الفاسدين سرقتها وتبديد ثرواتها وإيجابية أي شعب وحيوته في التعاطي مع الاحداث هي الضامن الأساسي لعدم التحكم في مصيره ومصادرة قراره السياسي وسرقة وتبديد ثرواته
يبقى السؤال الأساسي كيف تتحول هذه الإيجابية بالنسبة للشعب الليبي الى سلوك دائم وليس فقط ردة فعل عن كارثة طبيعية وكيف يمكن الاستفادة من هذه العواطف والمشاعر الوطنية الجياشة في ايجاد وعي مستمر يجهض أي محاولة لزرع الفتنة بين فئاته والعودة به الى الاقتتال الداخلي تحت أي مبرر كان وهذا تحد ينبغي ان يتصدى له المفكرون والساسة والمشائخ والنخب الوطنية والاجتماعية
السلبيات
– أبرز السلبيات التي كشفتها هذه الكارثة هي هشاشة البنية التحتية وعدم صيانة السدود والطرق والمباني وتركز البناء العمودي في مناطق تعرضت من قبل الى فيضانات وان كانت اقل سوءا الا انها أدت أيضا الى خسائر بشرية
ولا شك ان الجزء الأكبر من اللوم والمسؤولية في تهالك البنية التحتية في كل ليبيا يقع بالأساس على النظام السابق الذي حكم البلاد لأكثر من أربعين سنة وبدد ثروة هائلة في مغامراته ولم يصرف منها الا القليل في انشاء السدود والطرق ولكن ذلك لا يعفي الحكومات التي تعاقبت على الحكم في ليبيا بعد الثورة من هذه المسؤولية فقد تم إنفاق المليارات كمرتبات للوزراء والسفراء وأعضاء البرلمان ومجلس الدولة بل حتى على شراء الأسلحة والذخائر التي استخدمت في قتل الليبيين وانفقت الملايين كمرتبات للمرتزقة الذين تم جلبهم من دول شتى فيما لم ينفق على مشاريع الصيانة وإعادة البناء الا القليل.
– ابرزت هذه الكارثة عدم فعالية الهيئات والأجهزة الحكومية التي يفترض ان تكون مسؤولة عن مراقبة السدود وعن صيانتها وعن تحديد مستويات الخطر الذي يجب اتخاذ إجراءات عاجلة عند الوصول اليه وذلك يحتم وبشكل فوري القيام بتفعيل هذه الهيئات والأجهزة الحكومية وتطويرها وتدريب عناصرها والاستفادة من الدول المتقدمة في هذا المجال.
– ابرزت هذه الكارثة عدم وجود نظام وطني للإنذار المبكر في حالات العواصف او الحرائق او غيرها من الكوارث الطبيعية واتخاذ إجراءات الاخلاء والتدريب عليها هذه الإجراءات التي يتدرب عليها في الدول التي تحترم ادمية الانسان حتى التلاميذ الصغار في مدارسهم ونحن هنا نتحدث عن مدينة ضربتها السيول أكثر من مرة.
– كشفت هذه الكارثة أيضا عن عدم وجود فرق مدربة خاصة بالإنقاذ مجهزة بالأدوات المتطورة ولقد رأينا كيف تمكنت الفرق المدربة القادمة من اسبانيا وتركيا وغيرها من انقاذ الكثير من الضحايا وهنا ينبغي ان نسأل كم كان بالإمكان ان يكون عدد الذين تم انقاذهم لو توفرت لدينا مثل هذه الفرق ان التدريب على عمليات الإنقاذ هو جزء لا يتجزأ من التدريب العسكري للجيوش المعاصرة بحيث يمكن الاستفادة من فرق كامل من الجيش في اعمال الإغاثة عند حدوث الكوارث الطبيعية وينبغي على المسؤولين عن الجيوش في ليبيا – وما اكثرها – ان يهتموا بهذا الامر ويضعوا من ضمن برامج التدريب ما يخص المشاركة في اعمال الإنقاذ وهكذا يمكن الاستعانة بهم عند حدوث الكوارث لا ان يقتصر دور الجيش على حماية من هم في السلطة او إيصال الطامعين بها.
– كشفت هذه الكارثة أيضا مقدار التخبط والفوضى والذي كان أحد أسبابه وجود حكومتين فرغم ان العالم يعترف بحكومة الوحدة الوطنية وبالتالي فان الدول والمنظمات الدولية ستتواصل مع هذه الحكومة فيما يخص جهود الإغاثة الا ان وقوع الكارثة في منطقة لا تسيطر عليها هذه الحكومة بل تقع ضمن سيطرة حكومة أخرى موازية أوقع الكثير من الفوضى والازدواجية وكان الأولى بالحكومتين في هذا الظرف الخاص ان تتجاوزا هذا الخلاف السياسي ولو مؤقتا وتشكلا معا غرفة عمليات موحدة تشرف على جميع جهود الإغاثة
ما هو المطلوب مستقبلا؟
– اول ما يحتاجه الناجون حاليا هو توفير المأوى الكريم لهم بالإضافة الى الاحتياجات الأساسية من أغذية وملابس وغيرها والإسراع مباشرة بإعادة البناء والتي يجب ان تتجاوز أخطاء الماضي ويتم بناء احياء سكنية جديدة في المناطق المرتفعة من درنة مثل الفتائح والظهر الحمر وغيرها وتحويل منطقة مجرى الوادي بعد زيادة مسافة عرضه الى حدائق ومنتزهات ومباني ذات طبيعة خدمية وإدارية فقط وعدم اعطاء ترخيص للبناء السكني في هذه المناطق والتركيز عند تنفيذ مشاريع البنية التحتية من طرق وجسور وغيرها على المواصفات الفنية والتي تراعي كونها في مناطق جبلية مليئة بالوديان وتتعرض سنويا للسيول.
– يجب على السلطات القضائية اجراء تحقيق نزيه وشفاف حول أسباب انهيار السد ومن المسؤول عن عدم صيانته ومن السؤول عن عدم اجلاء الناس من المناطق المنخفضة مع اطلاع الجمهور على نتائج التحقيق واحالة المدانين للقضاء كائنا من كانوا وفي حال عجزت السلطات القضائية عن ذلك لأي سبب فيجب على الناشطين والسياسيين والنخب الاجتماعية المطالبة بتحقيق دولي. ان عجز القضاء الليبي عن ادانة المتسببين بالكارثة هو امر متوقع فهناك قضايا عدة عجز القضاء الليبي حتى الان عن ادانة المتسببين فيها رغم وجود بعضهم في السجون كقضية مذبحة بوسليم ومحرقة معسكر اليرموك والمقابر الجماعية في ترهونة فكيف سيتمكن القضاء الليبي المغلوب على امره من جهة والمسيس من جهة أخرى من توجيه الاتهام للمتسببين في الكارثة
– يجب على الحكومة الاهتمام بالجهات المسؤولة عن السدود في كل ليبيا ومتابعتها واجراء الصيانة اللازمة لها كما يجب الإسراع في إعادة بناء سد درنة بالاستعانة بالخبرات الدولية وعدم تسليم هذا المشروع الا الى شركة متخصصة في هذا المجال مع الإعلان بوضوح عن المشروع والشركة المنفذة له والمدة المحددة لتنفيذه.
– يجب على الحكومة الإسراع في انشاء فرق متخصصة للإنقاذ مع منظومة متكاملة للإنذار المبكر وتدريب هذه الفرق وتجهيزها بكامل المعدات الحديثة مع وضع الاستراتيجيات والخطط لكافة الكوارث المحتمل وقوعها والتدرب على التعامل معها كما يجب ادخال برامج التدريب على إغاثة ضحايا الكوارث من ضمن برامج تدريب الجيش والشرطة وتدريب المواطنين وخاصة في المناطق التي قد تتعرض الى مثل هذه السيول مستقبلا على الاخلاء السريع مع توفير ملاجئ امنة في مناطق مرتفعة
الكارثة كبيرة والخطب عظيم ولكن الدول والشعوب تتعلم من الكوارث وتكتسب الخبرة في التعامل معها بشرط ان يكون ذلك عبر دراسات علمية ومراكز متخصصة ويجب ان يكون هذا الحدث الأليم منطلقا للتصحيح والإصلاح والمحاسبة وإعادة بناء من تهدم من اخلاق شعبنا وقيمه وثوابته الوطنية فبناء الانسان هو المقدمة والخطوة الأولى لإعادة البناء
د. محمد عبد الرحمن – مركز الحقيقة للدراسات السياسية والثقافية