من شروط التعايش المجتمعي أن يكون هناك حد من السلم المجتمعي يضمن فيه الأفراد وفئات المجتمع على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ومن هذا الأساس جاء التوجيه النبوي إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم  حرام كحرمة يومكم هذا فقد توافقت البشرية على ضرورة إقامة كيانات سياسية تحفظ هذا السلم وفي غياب الدول لا يمكن حفظ السلم ففي الجاهلية كيف كانوا يغزون بعضهم يستحلون دماءهم وأموالهم فدور الدولة ضروري في حماية السلم والأمن الداخلي بل هو المهمة الرئيسية الأولى للدولة عندما قامت الدول لم تكن من مهامها إنشاء الطرق والمستشفيات والمدارس لكن المهمة الأساسية للدولة هي حفظ الأمن في الداخل وفض المنازعات وحماية الكيان من الخارج هذا الدور قد تفشل فيه الدولة ولهذا الفشل مظهران الأول أن تعجز الدولة عن ضبط الرعية وينطلق الناس يأخذون حقوقهم أو ما يدّعون أنه حقوقهم بأنفسهم وهنا تعود الحالة إلى ما قبل الدولة وتنتهي الدولة والفشل الآخر أن الدولة نفسها بمؤسساتها هي التي تكون سبب الرعب والإرهاب والانتهاكات ولا يأمن الناس في ظلها على أموالهم ولا على أنفسهم هذه دولة بما لديها من نفوذ وقوة لا تنهار مباشرة لكن تكون على برميل من البارود ينتظر الشرارة وهذا ما حصل بعد أربعين عاما من الكبت وانفجر الأمر في دول الربيع العربي عموما ومن بينها ليبيا.

للدولة أدوات في ملف السلم أول الأدوات الخطاب السياسي المتوازن وكان هذا غائبا في عهد القذافي الذي قسم المجتمع  إلى رجعيين وثوريين وزنادقة وكلاب ضالة وبرجوازيين ورأسماليين وكادحين هذا الخطاب يبدو أنه انحازت فيه الدولة ليس للمظلومين والضعفاء لكن كان وسيلة من وسائل القذافي في الهيمنة والسيطرة على البلاد ومن أدوات الدولة أيضا القانون وقد أساء القذافي استعماله بل غيبه تماما عندما ألغى القوانين وألغى الدستور وهناك مؤسسة القضاء طبعا التي مهمتها تطبيق القانون وإقامة العدل وهناك جهات تنفيذية  كان لا بد في ظل ما جرى في ليبيا من انتهاكات في ظل أربعين عاما أن يثور الشعب ويعود الحق المغتصب إلى أهله وكان هناك إجراءات باعتبار الثورة قامت على أسس وقيم العدالة والكرامة تبنى قادة سياسيون منذ بدايتها إجراءات لإعادة المظالم إلى أهلها وكانت أول مظلمة أعيدت للشعب الليبي هي تغييب الدستور الذي يكفل حقوق الأفراد ويضع حدا للسلطات وكان هناك إجراء شكلي فعله القذافي وهو إسقاط الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في الثمانينات في ظل هذه الوثيقة كانت هناك أبشع الانتهاكات وفي ظلها جرت مجزرة سجن بو سليم  التي قتل فيها في ضحى يوم واحد في ثلاث ساعات  1260 شخص بريء مسجون أعزل لا حول له ولا قوة وبطريقة بشعة من لم يقتله الرصاص تم ضرب رأسه بالحجارة كانت مجزرة بشعة وكانت من أسباب ثورة 17 فبراير المجيدة. 

بعد صدور الإعلان الدستوري حاول المجلس الوطني الانتقالي إقرار أو بدء إجراءات المصالحة بإصدار قانون إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ونص فيه على إنشاء هيئة لتقصي الحقائق وبعض الإجراءات الأخرى. بعد انتخاب المؤتمر الوطني العام رأى المؤتمر أن هذا القانون فيه قصور ويحتاج إلى إكمال فأصدر قانون العدالة الانتقالية. حقيقةً المصالحة (فأصلحوا بين أخويكم)  تسبقها آية أخرى مهمة جدا وهي (فأصلحوا بينهما بالعدل) لا يجوز ولا يمكن إقرار مصالحة دون إنصاف المظلومين وإعادة الحقوق إلى أهلها هذا لا بد منه المصالحة دون إنصاف المظلومين والضحايا لا تتم وستكون إذا أجبرت الضحية على السكوت أو التنازل سيكون سكوتهم مؤقتا بانتظار فرصة أخرى كما جرى في بداية الربيع العربي بالتالي ركّز المؤتمر الوطني العام في قانونه الجديد على  موضوع العدالة وكانت مسألة العدالة في قانون المجلس الانتقالي متأخرة  تحت مسمى (قانون  إرساء قواعد المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية )   المؤتمر سمّاه (قانون العدالة الانتقالية) باعتبار المصالحة هي جزء منه بل هي الهدف كما نص القانون على  ذلك.

كثير من الناس يتساءلون ما هي العدالة الانتقالية وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية التي تجري في المحاكم في جميع أرجاء الأرض؟ الحقيقة العدالة الانتقالية هي عدالة خاصة ومؤقتة ومرهونة بظرف معين هو مظالم جمّة تجمعت ولا بد من إجراءات تعالجها وتضمن عدم عودتها  وفيها جوانب أخرى  من العدالة لا تتم في العدالة التقليدية من بينها أنه في الجرائم العادية عندما يقتل فردا فردا أو مجموعة مجموعة تقضي المحكمة بإدانة المجرم وحبسه أو قتله أو القصاص منه  وينتهي الأمر لكن في الانتهاكات السابقة فإن الضحايا لم يقتلوا فقط بل تعرضت أعراضهم للانتهاك وشوهوا تشويها واتهموا بالعمالة للخارج للموساد والرجعية وغيرها أوصاف شنيعة كان لا بد أن يعود لهم حقهم في هذا الجانب ومن ثم كانت العدالة الانتقالية تقوم على تقصي الوقائع  للوصول إلى الرواية الحقيقية التي جرت في هذه الانتهاكات ، كيف ظلموا وما أسباب ظلمهم وبراءتهم مما اتهموا به وحفظ الذاكرة الوطنية من بين أركان العدالة الانتقالية وإجراءاتها إن هذه المظلمة توثق وتعمل لها أنصاب تذكارية تخلد ذكراها في ذاكرة المجتمع حتى لا يعود الظلم والانتهاكات من بين عناصر العدالة الانتقالية وأركانها هي إصلاح المؤسسات. المحاكم العادية تقضي على المجرم بعقوبة وينتهي الأمر وتعد ذلك إنصافا للضحية، لكن العدالة الانتقالية تطال المؤسسات التي كانت تسمى أمنية بإصلاحها في هياكلها وأهدافها وعقيدتها الأمنية وفي إبعاد العناصر المجرمة والدموية التي لا ترعى حقوق الإنسان. هذا باختصار الجواب على سؤال لماذا كانت العدالة ضرورية لنصل إلى المصالحة الوطنية؟ في نص القانون الجديد مادة تقول إن هدف العدالة الانتقالية هو الوصول إلى المصالحة الوطنية وهذا مما استدركه قانون العدالة الانتقالية بوضوح على القانون السابق.

الإقرار بعدالة الثورة وحق الشعب في استرداد حقه في اختيار حكامه، بث الطمأنينة في النفوس وإقناعهم بأن العدالة قائمة. من أهم ما جرى بعد فبراير صدور القانون رقم 31 بشأن تقرير الأحكام الخاصة بمذبحة بو سليم وصدر أيضا القرار رقم 59 باعتبار مذبحة بو سليم من جرائم الإبادة الجماعية هاتان المادتان التشريعيتان كان لهما دور كبير في إقرار العدالة في ليبيا وفي حماية حقوق المظلومين وخاصة مظلومي بو سليم لأنه عندما قُدّم مجرمو أو متهمو قضية بو سليم إلى المحاكم رأينا حكما غريبا صدر في شأنهم وهو سقوط الجريمة ولا أدري كيف استطاع ضمير القاضي أن يقضي بسقوط الجريمة وإفلات المجرمين من العقاب بمضي المدة! ولكن هذين القانونين اعتمدت عليمها المحكمة العليا عندما نقضت هذا الحكم الظالم وأنا أريد أن أنقل إليكم الفقرة التي نصّت عليها المحكمة العليا في قرارها للنقض، قال:  ولما كان القرار الأخير قرار 59 باعتبار مذبحة بو سليم من جرائم الإبادة الجماعية والقانون رقم 31 هما تشريعان تفسيريان لواقعة مذبحة بو سليم واعتبارها جريمة إبادة جماعية مرتكبة ضد الإنسانية، وكان التشريع التفسيري يسري من تاريخ صدور القانون الذي يفسره، ولا تطبق بشأنه قاعدة القانون الأصلح للمتهم (وهو عندما تتوالى القوانين ويقدم إنسان للمحاكمة في ظل عدة قوانين مثلاً جريمة حصلت في ظل قانون والمحاكمة تتم في ظل قانون آخر  توجد قاعدة الأصلح للمتهم لأن هناك القاعدة الأولى وهي سقوط الجريمة بالتقادم)  قال: كان التشريع التفسيري يسري من تاريخ صدور القانون الذي يفسره  ولا تطبق بشأنه قاعدة  القانون الأصلح للمتهم  وبناء على ذلك فإنه طالما تدخّل المشرِّع بهذين القانونين واعتبر الواقعة محل الحكم المنظور فيه من الجرائم المشمولة في اتفاقية عدم تقادم الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية فإنه لا مجال للبحث في تفسيرات خارج نطاق إرادة المشرع وينبغي على المخاطبين به الالتزام بهذا التفسير ومن ثم فإن هذا التفسير يسري اعتبارا من تاريخ صدور القانون رقم 7 لسنة 1989 بشأن المصادقة على اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

مما يعني أن هذين القانونين اعتبرتهما المحكمة العليا تشريعا تفسيريا فسّر المعاهدة وطبّقها على واقعة بو سليم وأغلق على المحكمة أي اجتهاد ممكن أن تفسر به أو تطبق به قواعد أخرى على قضية متهمي بو سليم مثل التقادم.

ولما كان الحكم المطعون فيه قد ذهب إلى خلاف ذلك واعتبر أن الجريمة المنسوبة ضدهم ليست من الجرائم ضد الإنسانية ويسري عليها التقادم وقضى بسقوط الجرائم بمرور المدة فإنه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون الأمر الذي حجبه عن النظر في الموضوع ولذلك يتعين نقض الحكم المطعون فيه برمته في تلك الواقعة. فلولا أن المشرّع وضع أمام المحكمة العليا هذين القانونين وصدر الحكم بسقوط الجريمة بمضي المدة.  1260 عائلة وراءهم عدد لا يحصى من الأقارب والجيران والقبائل عندما يرون قاتلي أبناءهم وأقاربهم أمام أعينهم هل ستتم مصالحة في ظل إفلات هؤلاء المجرمين من العدالة ومن تحمل مسؤولية جرائمهم؟  وبالتالي فإن المشرع كان موفقا جدا على الرغم من أننا لم نكن نتوقع في المؤتمر بوجود محكمة يمكن أن تقضي بسقوط هذه الجرائم بسبب انقضاء المدة لكن حصل ذلك الهدف الذي هو إقرار العدالة وقد وفقنا الله تعالى لمثل هذا القانون.

 هناك جوانب أخرى عالجها المشرع ومنها مسألة المظالم العقارية، القذافي لم يكتفِ بسفك الدماء وقتل الأبرياء وتشريد الناس بل سلب الليبيين حقوقهم ومن أشهر هذه القوانين قانون رقم 4 قانون إلغاء ملكية الأرض فجاء المؤتمر وأصدر عدة قوانين من أجل رد هذه المظالم العقارية منها القانون رقم 16 بإلغاء بعض القوانين ألغى فيها 12 قانون دفعة واحدة منها إلغاء ملكية الأرض في القانون رقم 4 وإلغاء قانون الحيازة كسبب من أسباب كسب الملكية والأراضي القزمية وهي الأراضي الصغيرة التي حاول القذافي الاستحواذ عليها بحجة أنها لا تدرّ أموالا!  ثم أُصدر القانون رقم 20 سنة 2015 بتقرير بعض الأحكام الخاصة بمعالجة الآثار المترتبة على إلغاء القانون رقم 4 الذي صدر في عام 1978 وملّك الساكنين في هذه العقارات والشاغلين لها إياها وسلب الناس أموالهم وبعد أكثر من 40 عاما طبعا معالجة هذا الموضوع من الصعوبة بمكان لأن هذه العقارات تداولتها الأيدي إما بالموت والإرث وإما بالتصرف والبيع ودفعت أموال من المشترين وترتبت عليها آثار يصعب تلافيها الآن أو معالجتها بمجرد إلغاء هذا القانون.

 هذا يترتب عليه على كاهل الدولة تعويضات حتى الساكنين أو الشاغلين لهذه العقارات جزء منهم مظلوم لأنه أجبر على ذلك لأنه لا يوجد سكن لهم القذافي اتّبع سياسة التفقير المنهجي فلم يكن ممكن للموظفين والكثير من الناس الحصول على منزل فأجبروا على البقاء في هذه المنازل التي ليست لهم أصلا وهناك من مات منهم وهناك من باع، تداول العقارات بهذا الشكل شيء طبيعي في المجتمع لذلك صدر القانون رقم 20 لمعالجة الآثار المترتبة على إلغاء القانون رقم 4.

أحببت أن أركز على موضوع العدل والإنصاف كمقدمة للمصالحة الوطنية فبدون عدل وإنصاف لن يكون هناك مصالحة وسيكون هناك برميل بارود آخر ينفجر فيه المجتمع وبالتالي أنا أرى أن الطموحات في المصالحة الوطنية مرهونة بانتصار الثورة انتصارا نهائيا على قوى الظلم وقوى الثورة المضادة بدون هذا الانتصار وإقرار  سيادة وقيم الدولة لا يمكن لا إجراء عدالة ولا الوصول إلى مصالحة رأينا عندما سيطرت الثورة المضادة في مصر كيف قُتل الناس بالآلاف في الشوارع أمام أنظار العالم وما زالت الثورة المضادة تلاحق المظلومين حتى اليوم بالأحكام الجائرة الفجة التي يصعب وصفها. لذلك لابد إذا كان هناك أمل في مصالحة وطنية أن يكون هذا كله بعد استكمال انتصار الثورة وإن الطمع في عقد صفقة مع المجرمين والظالمين مثل حفتر والسيسي وبشار الأسد هذا لا يمكن أن يقر مصالحة ولا يوصل الناس إلى عدالة.  

كذلك الإنصاف أو المصالحة في المظالم العقارية من الصعوبة بمكان فربما تتصالح مع شخص قُتل له قريب ويئس من عودته بينما لن تصالح شخصا اغتصب بيتك وأنت تراه أمام عينيك حتى لو أدى ذلك إلى ردة فعل أو ارتدادات عبر 40 عاما من العقود الباطلة لشاغلي هذه العقارات وساكنيها باعتباره غير المالك الحقيقي الشرعي لها وهذا في الواقع شيء مكلف جدا ويحتاج إلى مؤسسة ويحتاج إلى صندوق للتعويضات تعويض المالك الحقيقي بهذا العقار أو الشاغل الذي أجبر على السكن فيه ولا يملك غير هذا المسكن.