-مدخلٌ عامٌّ:
تماهيا مع خطَّة الأمم المتَّحدة والتي يشرفُ عليها المبعوثُ الأممي الخاصُّ عبد الله باتيلي، من أجل أن تقود ليبيا المتصارعة إلى برِّ الأمان كما يقولون، عبر توصيفة أمميَّة واحدة تحاولُ تطبيقها كلَّ مرَّةٍ في أيِّ بلد يصابُ بداءِ الصراع بين أبنائهِ، ألا وهي وصفةُ الانتخابات، وكأنَّ الإشكالَ في ليبيا اليوم هو إشكالُ شرعيَّات، والأمرُ أعقدُ من ذلك بكثير،وقد جرَّب الليبيُّونَ ما بعد ثورةِ فبراير الانتخابات، ولكنَّها في حقيقة الأمر كانت مدخلًا للصراع وللانقسام لاحقًا، ربَّما لبروز أسماء كانت كما يُقالُ نكرةً في بواكير الثورة وما بعدها،أو أنَّها من أبناءِ النظام القديم، غير أنَّها بقوَّةِ مَا تملك من مالٍ ونفوذٍ بل وسابق علاقاتٍ مع الدولةِ العميقةِ الليبيَّةِ وجدت نفسها من خلال لعبة الانتخابات كما يُقالُ في الصفِّ الأوَّل في ليبيا الجديدة، وعليه فإنَّ الانتخابات أو الديموقراطيَّة في ليبيا هي في حدِّ ذاتها مشكلٌ وليست حلًّا في بلدٍ لم يمكِّنهُ نظامهُ السابقُ تحت سلطةِ الفردِ بغطاء الجماهيرِ أن يحكم نفسه بنفسهِ، أو أن تكون له مشاركاتٌ ديموقراطيَّةٌ ولو شكليَّة كجارتها تونس على أقلِّ تقدير إن لم نحلم بأكثر.
1-انقسامات:
في ظلِّ هذه الانقسامات على الأرضِ من شبه المستحيل أن يكون مشروعُ الحلِّ الذي تطرحهُ الأممُ المتَّحدةُ واقعيًّا، ونعني بالانقسامات أوَّلَا شرق غرب، وثانيًّا شرعيَّاتٌ دستوريَّةٌ متنافرةٌ بين برلمانٍ في الشرقِ ومجلسِ دولةٍ في الغرب، وثالثا انقسامٌ عسكريٌّ رسميٌّ على الأرضِ قيادتا أركان،وميليشيات هنا وهناك لها نفوذ كبير بحجم إدارةِ الدولة، ولكن في الأوَّلِ والأخير لم يحسمْ كلُّ طرفٍ المسألةَ نهائيًّا لتستقرَّ ليبيا ولو بمنطق القوَّةِ والباقي نعتقدُ بأنَّهُ يمكنُ أن تعتاد عليه الناسُ رويدًا رويدًا،وكذلك مع تواجد حكومتين لكلٍّ منهما شرعيَّةٌ على ما ترى، وأخيرًا بروزُ زعاماتٍ من الوزن الثقيل سواءٌ في الداخل أو في الخارج لم يعدْ تجاهلها سهلًا فبرفع سمَّاعةِ الهاتف يمكنُ أن تشعل نارَ الحرب في أيِّ مدينة ليبيَّةٍ بسببٍ وبدونه، وممكنٌ كذلك أن يهدِّدَ أمن العاصمة ليبيا مركز السيادةِ، وقد حدث هذا أكثر من مرَّة، وأخيرًا أيضًا الاهتمام الدولي الكبير جدًّا بل والمتزايد بليبيا الجديدةِ، والتي أصبحت خاصَّة في ظلِّ أزمة الوقود العالميَّة من أهمِّ البلدان التي يراهنُ عليها الجميعُ، سواءٌ في الشراكاتِ في مشاريع الطاقةِ العملاقةِ في ليبيا، والشراكةُ الإيطاليَّةُ الليبيَّةُ الأخيرةُ في مجال الطاقةِ خيرُ مثالٍ على ذلك، أو من خلال اعتبارها مصدرًا طاقيًّا قريبًا خاصَّةً لأوروبَّا، وآمنًا ولو ظاهريًّا، ونقصدُ بآمنٍ ما دونَ الحربِ الشاملة، وإن لم يشهد قطاعُ النفطِ في ليبيا أيَّ استقرار منذُ ثورةِ فبراير،لا في حمايةِ المنشآت النفطيَّة والغازيَّة،ولا في نسق التصدير، فكم من مرَّةٍ تتعرَّضُ تلك المنشآتُ إلى الاعتداء، أو السيطرة، أو إعادة السيطرة من هذه الجهة أو تلك، وكذلك عدمُ الوضوح في توزيع عائداته.
الجميعُ هنا في ليبيا يعتبرُهذا القطاع هو المصدرُ الأساسُ للقوَّةِ على الأرض، فمن يمتلك آبار النفطِ والغازِ ويسيطرُ عليها يمتلك ليبيا اليوم.
إذن هل يمكنُ أن نتحدَّثَ عن ليبيا اليوم بأملِ أن تستقرَّ وأن تذهب لمشروع ديموقرطي قريب جدًّا في ظلِّ ما وصَّفنا من حالةٍ غير مستقرَّة، أمام إصرارِ الأمم المتَّحدة على أن تكون هذه السنة سنة الانتخابات،في ظلِّ وجود ميليشيوي على الأرض كبير جدًّا ومتنوَّع ومختلف الميولات، وكذلك في ظلِّ وجود ميليشيا أجنبيَّة مشهودٌ بقوَّتها دوليًّا وتخوض القتال مع الجهات التي تدفع لها بالتوازي في العديد من البلدان، وفي أكثر من قارَّة،ما لم تقدر على فعله الكثيرُ من الدول.
في ليبيا تقفُ هذه الميليشيا العابرةُ للقارَّاتِ لتدعم طرفًا واحدًا، وأجندةً واحدة، ومشورعًا واحدًا، فهل يمكنُ الحديثُ عن مشروع انتقال ديموقراطي وملفُّ فاغنر لم تضعهُ الأمم المتَّحدةُ على الطاولة، ولم يناقشهُ الفرقاء الليبيُّون من أجل الحسم في أمره قبل أن يصبح من المستحيلِ إزاحتهُ من على الأرض إلَّا بتكاليف باهضة لا سمحَ الله؟
2-مشروعيَّةُ هذهِ الورقاتِ في هذا الظرفِ بالذات:
-بعد لقاء قائدي أركان الجيش في الغرب والشرق الليبي محمد الحدَّاد وعبد الرزَّاق الناظوري في طرابلس في زيارة لاقت استحسانَ الجميع ما عدى بعض الأطرافِ العسكريَّة على الأرض، لعدم إيمانها بجدوى توحيدِ المؤسَّسة العسكريَّة، أو لإيمانها بأنَّ عددًا من الأطراف التي تحاولُ الآن توحيد المؤسَّسة العسكريَّة هي جزءٌ من الأزمةِ وليست جزءًا من الحلِّ، ولا بدَّ من محاسبتها عوضَ الجلوس لطاولة المفاوضات معها، عقد لقاء آخر في واشنطن بين الرجلين وجملة من الضبَّاط من الطرفين، وبمشاركة باسم البوعيشي صهر خليفة حفتر، وبالتأكيد بمشاركةِ عددٍ من المسؤولينَ الأمريكان، وعلى المرجَّح من العسكريِّين أو ضبَّاطٍ من المخبارات وذلك لفنِّيِّة الموضوع في جوانب منهُ كثيرة، والملفتُ للأمر على ما ذكرت بعضُ وسائل الإعلام فإنَّ ملفَّ بقاء أو ترحيل فاغنر من ليبيا قد طرح في ذلك اللقاءِ، وقد لاقى تجاوبًا من طرفِ الحدَّاد ومن معه، ويبدو أنَّ حفتر ومعسكرهُ قد وضعوا ورقة ميليشيا فاغنر للتفاوضِ وعلى استعدادٍ للتخلِّي عنها بالطبع مقابل مكاسب سياسيَّة، ورغم اعتبار قرار الشرق الليبي مفاجئًا إلَّا أنَّهُ لن يأتيَ حسب رأينا طبعا إلَّا في سياق تنسيقٍ مسبقٍ بين موسكو وحفتر، ولا نعتقدُ بأنَّ حفتر له من الجرأة بحيثُ يخسر حليفًا استراتيجيًّا أو جهة داعمة لمشاريعه العسكريَّة والسياسيَّة مثل موسكو، وفي هذا الظرف بالذات،وقد فترتْ علاقتهُ بالمصريِّينَ وبالإمارتيِّينَ، وهي سيِّئةٌ أساسا مع الأمريكان
عقب اللقاء قيل بأنَّ قوَّات تابعة للواء طارق بن زياد التابعة لصدَّام حفتر قد بدأت فورًا في إعادة الانتشار في مناطقِ نفوذِ فاغنر خاصَّة في بني وليد ونسمة، كما أنَّ قوَّاتٍ أخرى تابعة لحفتر أعادت انتشارها من السدادة إلى جارف.
هل يمكنُ أن نتحدَّث عن قرار ليبي ليبي مدعومٍ أمميًّا وأمريكيًّا أساسَا بضرورةِ إنهاءِ وجود فاغنر في ليبيا من أجل الاستعدادِ للمحطَّاتِ السياسيَّة المقبلة، ونصف السؤال الآخر والذي ستكشفُ عنه الأيَّامُ كما يُقالُ، ما هو الثمنُ الذي ستدفعهُ حكومةُ الغربِ الليبي من أجل إنهاء وجود فاغنر في ليبيا؟
3- فاغنر: التأسيسُ والنشأة:
تأسَّست شركةُ فاغنر-ميليشيا عسكريّة روسيَّة عابرة للقارَّات، -فاغنر هو اسم لملحِّن ألماني شهير يُقالُ بأنَّ أودولف هتلر يعشقُ ألحانهُ كثيرًا- في العام 2014 على يدي ضابط الاستخبارات العسكريَّة الروسي ديمتري أوتكين، وهو من الضبَّاط الذين شاركو في حرب الشيشان وسوريا بل وحتَّى العراق، وقد ظهرتْ موضةُ تأسيس شركاتِ الحماية-ميليشا- في روسيا بعد سقوط الاتِّحاد السوفييتي واضطرار روسيا إلى تسريح عدد كبير من الجنود والضبَّاط الذين أصبحوا عبئًا على الدولة الوليدة ونفقاتها،ولا مجال لهؤلاء على ما امتهنوا طبعًا من قتال وحروب وخدمة في صفوف القوَّات المسلَّحة إلَّا أن يجدوا بديلًا للعيش في نفس اختصاصهم،وقد ظهرت في تلك الفترة العديدُ من الشركاتِ في مجالِ حماية المؤسَّساتِ بداية لتتطوَّر لاحقًا إلى ما نرى الآن من بلطجةٍ وحروبٍ في العديد من البلدان في العالم ليصلَ العددُ الحالي لتلك الشركات الخاصَّة إلى ما يقربُ من 20000ألف شركة البعضُ منها أخذَ شهرة عالميَّة مثل شركة فاغنر المثيرة للجدل، والمصنَّفةُ أمريكيًّا بأنَّها مليشيا إجراميَّة عابرة للقارَّات.
4-ذراعُ المخابراتِ العسكريَّةِ الروسيَّة:
بعد ديمتري أوتكين برز للواجهة اسمُ رجل الأعمال الشهير يفجيني بريغوزين المالك والمموِّل لفاغنر، وقد ظهر بأنَّ أوتكين ما هو إلَّا مدير فنِّي وربَّما واجهة فقط لصاحب الشركة والتي تبيَّن لاحقا بأنَّها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوزارة الدفاع الروسيَّة، أي لها شكل شبه رسمي عسكري، ولكن بمنحها صفة الشركة فقط ليسمح لها بهامش حركة دوليًّا أكبر من العوائق الرسميَّة للجيش الروسي خارج روسيا،ولعلَّ ذلك الهامش-غير الرسمي- وإن أضاف الكثير للشركة على مستوى هامش الحركة والاستقلاليّة الماليَّة واللوجيستيَّة إلَّا أنَّه قد يجعلها كذلك تدفعُ تكاليفَ باهضة على الأرض من مثل خسارتها الفادحة في سوريا لمَّا قادت هجومًا كاسحًا مع قوَّات الأسد ضدَّ بعض الفصائل الإسلاميَّة المقاتلة في سوريا عام 2017 وقد تخلَّى عنها الكرملين في تواصله مع الأمركان الذين طالبوا الروس بسحب قوَّاتهم من القتال، فما كان من الروس إلَّا أن نفوا وجود أيِّ قوَّات روسيَّة لهم على الأرض-نظاميَّة- فقام الأمريكان بإبادةِ عدد كبير منهم في غارات جوِّيَّةٍ مسترسلة.
فاغنر كذلك من خلال وجودها القويِّ والمؤكَّدِ في أكثر من اثني عشرة دولة إفريقيَّة صارت تحصدُ ذلك التواجد-الخدمات- والذي أصبحَ يتعمَّقُ مع الوقت، ويتجاوز العسكري، قلنا صارت تحصد مواقف سياسيَّة لصالح بلدها روسيا، فقد أفلح الروسُ أخيرًا في تحييد خمسة عشر عضوًا إفريقيًّا في الأمم المتَّحدة من التصويت ضدَّها-امتنعوا عن التصويت- في قرار كان سيتَّخذُ ضدَّ موسكو في الحرب الدائرة بينها وبين أوكرانيا، في حين انحازت إريتريا ومالي بشكلٍ واضحٍ لصالح موسكو، ورفضتا القرارمن الأساس، وليس مجرَّد الإحجام عن التصويت، ولولا فاغنر ما كانت موسكو لتحصدَ ذلك النجاح الديبلوماسي المبهر، وعليه فلا يمكنُ أن نتحدَّث عن شركةٍ خاصَّةٍ قريبةٍ من وزارة الدفاع، أو من بوتين في شخصه، فنحنُ نتحدَّثُ عن احدى أذرع الدولة الروسيَّةِ تنشطُ خارج البلد، لصالح سياسات ومصالح البلد، بهامش حركة مريح جدًّا.
5-طبَّاخ الرئيس:
يفجيني بريغوزين الشهير بطبَّاخ الرئيس، رجلُ أعمال مثير للجدل تربطهُ صلاتٌ جدُّ وثيقةٍ بفلاديمير بوتين الرئيسُ الروسي ،قد قضى فترةً في السجنِ بتهمِ الاحتيال، وبعد إنهاء محكوميَّتهِ افتتح سلسلةً من المطاعم الفاخرةِ ليظهر في الأخير بأنَّهُ المزوِّد الرئيس للكرملين بالطعام، ويحوز حينها على لقب طبَّاخ الرئيس،ثمَّ توسَّعَ نشاطه أكثر ليزوِّد الجيش والشرطة والمدارس بالأطعمة .
تقدَّرُميليشيا فاغنر ب5000 مقاتل وضابط، ونحنُ نشكِّكُ في العدد ونعتقدُ بأنَّ الرقم أكبر من ذلك بكثير، ففي جمهوريَّةِ إفريقيا الوسطى لوحدها كان للميليشيا على الأرض 3000 مقاتل، ومن المستحيلُ أن تضحَّي شركة بهذه الأهمِّيةِ والحرفيَّةِ بأكثر من نصف مقاتليها في بلدٍ واحدٍ يخوضُ حربًا أهليَّة،فتجربتها في روسيا-تجربةُ قادتها في الحقبة السوفييتيَّة- علَّمتها بأنَّ الرهان على القوَّةِ فيه مفاجآتٌ قد تجعلك تخسر عدديًّا ما بنيتهُ من قوَّةٍ في سنوات، وفعلًا فإنَّ بعض الخبراء يقدِّرُ بأنَّ الميليشيا قد خسرت إلى الآن في حدود ال30% من مخزونها البشري، ومع ذلك فما زال عديدُ مقاتليها بالآلاف.
قال المحلِّلُ السياسي راديمار من” المبادرة العالميَّةِ لمكافحةِ الجريمةِ المنظَّمةِ العابرةِ للأوطان” إنَّنا نناقش في التقرير- التقرير الذي أعدَّتهُ المجموعةُ حول فاغنر- كون مجموعة فاغنر هي اللاعبُ الروسي الأكثر نفوذًا في إفريقيا اليوم، وأنَّ أنشطتها وأنشطة الشركات التي تختفي خلفها، لها تأثيرٌ ضارٌّ على القارَّة”.
6-فاغنر في سوريا:
-يمكنُ الحديثُ رسميًّا عن وجودِ فاغنر على الأرضِ في سوريا بدخولِ القوَّاتِ الروسيَّةِ النظاميَّةِ في الصراع سنة 2015 ،وقد قيلَ أيضًا وحسبَ وكالةِ بلومبارغ ذائعة الصيت بأنَّ بعض عناصر من فاغنر كانوا قد شاركوا في المعارك في سوريا حتَّى قبل التدخُّل الرسمي الروسي في سوريا، أي سنة 2013،وكما قدَّمنا أعلاهُ بعدم استقلاليَّة هذه الشركةِ الخاصَّة-الميليشيا- وربَّما غيرها عن وزارة الدفاع الروسيَّة، وربَّما عن الاستخباراتِ العسكريَّةِ الروسيَّةِ خاصَّةً للخلفيَّة الاستخباراتيَّةِ العسكريَّة لمديرها التنفيذي، فإنَّ وجودها تزامنَ مع وجودِ القوَّات الروسيَّة في سوريا، ولم تكن فاغنر وحدها من الشركاتِ الروسيَّةِ المتواجدةِ على الأرض في سوريا فقد تواجد وما يزال يتوجدُ غيرها إلى الآن.
7-بلاك ووتر في ثوب روسي:
تجربةُ فاغنر الروسيَّةُ في دورها، وفي مهامِّها خارج روسيا، أشبهُ ما يكون بشركةِ بلاك ووتر الأمريكيَّةِ ذائعةُ الصيتِ أيضًا، والتي اشتهرت في العراق وأفغانستان عبر فضاعاتها، وما كانت تقومُ به ضدَّ المواطن العراقي خاصَّةً حتَّى الأعزل منه، فاغنر أيضًا قامت بعمليَّاتِ تعذيبٍ في سوريا مثل بلاك ووتر في العراق، وقد صوَّرت ما تقومُ به من فضاعات، وتمَّ تسريبه لموقع اليوتيوب، حيثُ يظهر مواطنٌ سوريٌّ عُرفَ لاحقًا بأنَّ اسمهُ محمد إسماعيل، وكان عناصر من فاغنر بلباسهم العسكري-ولغتهم الروسيَّة- يقومونَ بتعذيبهِ ويتحلَّقونَ حوله ضاحكين.
8-تحت مرمى الأمريكان:
المليشيا كذلك رغم التزامها بعدمِ تجاوز خطوطِ التماس بين الأمريكان والروس على الأرضِ مايعرفُ بحدود نهر الفرات، فشرقيِّهِ منطقةُ نفوذٍ للقوَّاتِ الأمريكيَّةِ وقوَّاتِ سوريا الديموقراطيَّةِ، وغربيِّهِ منطقةُ نفوذٍ للروسِ وقوَّاتِ بشَّارِ الأسدِ والميليشيات المتحالفة، وقد اجتازت الميليشيا الروسيَّة هذا الخطَّ مع قوَّات بشَّار الأسد في فبراير 2018 في منطقة دير الزور في محاولة منها لاحتلال مناطق الغاز، حيثُ تتمركز قوَّاتُ سوريا الديموقراطيَّة في معمل” كونوكو”، أو للاقتراب من قوَّاتِ سوريا الديمقراطيَّة على مسافةِ ثماني كيلومتراتٍ من خطِّ التماس،والتي كانت حينها في حماية القوَّات الأمريكيَّة، ورغم وُجودِ خطٍّ ساخنٍ بين الروس والأمريكانِ، إلَّا أنَّ الطائراتِ الأمريكيَّةِ تمكَّنت من حصد أكثر من مائتي قتيلٍ قيل بأنَّ أغلبهم من فاغنر.
9-المهامُّ:
تولَّت فاغنر بدايةً حمايةَ المنشآتِ البتروليَّة، وحقولِ الغاز ،وكلِّ ما هو حيويٌّ ومهمٌّ، ولاحقًا صارت بوجهٍ مكشوفٍ تشاركُ مع النظامِ وميليشياته حزبَ اللهِ والقواتِ الإيرانيَّةِ والأفغانيَّة وغير ذلكَ من المكوِّنِ الشيعي العالمي في الحربِ الدائرةِ على الأرضِ ضدَّ الفصائلِ المقاتلة، أي أصبحت فعليًّا جزءًا من المعادلةِ العسكريَّةِ على الأرض،ممَّا سمحَ لروسيا بأن تكونَ محورَ أيِّ مفاوضاتٍ للحلِّ في سوريا، بل البعضُ يعتبرُ وأنَّ الحلَّ مع الروسِ مباشرةً وليس مع حزبِ البعثِ السوري،وفعلًا فقد تفاوضت المعارضةُ السوريَّةُ وفي أكثر من مناسبةٍ مع الروسِ دونَ مشاركةِ النظام، وقد عرضت المعارضةُ على موسكو نفسَ الامتيازات التي تتمتَّعُ بها من طرف النظام-القواعد الجويَّةُ والبحريَّةُ والنفوذُ المالي والاستفادةُ من الغازِ والنفطِ وغيرِ ذلك- على أن يتخلَّى عن بشَّارِ الأسد إلَّا أنَّهم جوبهوا بالرفض،فما بين النظامينِ يصعبُ أن يعوَّضَ بجهةٍ أخرى على الأرض.
شاركت فاغنر على الأرضِ مثلًا في الهجومِ على تدمر عام 2016 وعلى غربِ مدينةِ دير الزور عام 2017،كما أنَّها ساهمت وإلى حدٍّ كبيرٍ في تدريبِ الميليشياتِ المواليةِ للنظام.
مع انسحابِ الولاياتِ المتَّحدةِ من مناطقِ القامشلي وعين العربِ ومنبجْ لوحظَ التواجدُ الكثيفُ لفاغنر هناك، ولاحقًا شاركت في المعارك التي دارت رحاها في اللاذقيَّةِ وإدلب
10-روسيا في إفريقيا:
تقولُ المصادرُ بأنَّ روسيا التي ورثت الاتِّحادَ السوفييتي تحاولُ العودةَ بقوَّةٍ إلى القارَّةِ السمراءِ عبرَ فاغنر،بتقييم أنَّها يمكنُ أن تتواجدَ هناك من خلالِ دعمِ الديكتاتوريَّاتِ في قارَّةٍ مازالت تحوزُ على الرقمِ القياسي العالمي الأرفع في نسبِ الانقلاباتِ العسكريَّةِ في حين أصبحت تلك الأفعالُ في قارَّاتٍ أخرى من الماضي، وعليه فقد تواجدتْ موسكو عبر فاغنر في أكثر من عشر بلدان إفريقيَّة، منها السودانُ وجمهوريَّةُ إفريقيا الوسطى، وليبيا، وزيمبابوي وأنغولا، ومدغشقر، وغينيا بيساو، وموزمبيق، وقيلَ في جمهوريَّة الكونغو الديموقراطيَّة أيضًا.
يبدو أنَّ المهامَّ التي تُكلَّفُ بها في تلك البلدانِ متنوِّعةٌ جدًّا ولا تقفُ عند الأمني، حتَّى يصعبُ أن نصنِّفَ فاغنر على كونها شركة أمنيَّةٍ، بل على كونها شركة أصلًا، فعلاوة على المجال الأمني من تدريبٍ وحماية شخصيَّاتٍ، فهي تقومُ أيضًا بالمشاركةِ في القتال ضدَّ الجماعاتِ المتمرِّدةِ المحلِّيَّة، وتتولَّى الدور الاستشاري حتَّى لبعضِ الرؤساءِ الأفارقة كرئيسِ جمهوريَّةِ إفريقيا الوسطى فوستين أرشينج تواديرا، وتقومُ أيضًا بحمايةِ مناجمِ الذهبِ والماس، بل وتتمتَّعُ بتراخيصَ لإدارتها واستخراج المعادنِ الثمينةِ منها، وبالتالي تسويقها، وأيضًا تقومُ باستيرادِ الأسلحة لتلكَ البلدان، فنحنُ نتحدَّثُ عن مؤسَّسةٍ ضخمةٍ تشبهُ دولةً صغيرةً، فيها من الضبَّاطِ والخبراءِ والتجَّارِ والمحاسبين، وربَّما من الساسةِ المتقاعدين، أو جهات استشاريَّة متنوِّعة، ما يكفيها لإدارةِ بلد، أو أن تكونَ الرقمَ الصعبَ فيه.
المثيرُ للجدل حسب الخبراء أنَّ فاغنر-في إفريقيا خاصَّة- حاولت حتَّى إعادةَ صياغةِ الرأي العامِّ أو ما يُسمَّى بالوعي الجمعي-أو العقل الجمعي- لصالح الجهات التي تدفعُ لها،فهي تتدخَّلُ بشكل قويٍّ عبر وسائط التواصلِ الاجتماعي من أجل التأثير على الرأي العامِّ لصالح الجهاتِ التي تستأجرها،وكذلك حاولتْ أن تظهرَ عبر شركات أخرى-شركات واجهة- تابعة لها، أو مؤسَّسات على شكل مراقبين للانتخاباتِ الوهميَّة التي يجريها حلفاؤها في تلك البلدان، بل إنَّها في بعضِ البلدان قامت بحفلاتٍ لاختيارِ ملكة جمالٍ محلِّيَّةٍ، وكذلك أنتجت فلمًا يمجَّدُ فيه ما تقومُ به فاغنر من جرائم، فلا نعتقدُ إذن بأنَّ مصطلح شركة دقيقٌ مع هذه الجهةِ التي لا تعرفُ المستحيلَ في سبيل أن يُدفعَ لها بالذهب.
11-في إفريقيا الوسطى:
من القصر الرئاسي إلى مناجم الذهب:
بدأ الظهور العلني لميليشيا فاغنر في جمهوريَّة إفريقيا الوسطى التي تخوضُ حربًا أهليَّةً منذ سنوات، منذ سنة 2017 حيث وصلها 400 مدرَّب من مدرِّبيها بدايةً بغرض التصدِّي لحركات تمرُّد ضدَّ السلطة الحاكمة-التي وصلت بدورها بانقلاب عسكري- لتصبحَ لاحقًا المتحكِّمة الفعليَّة عسكريًّا في القصر الرئاسي، وبالتالي في القرار السياسي في البلد،وعائقًا أساسًا أمام أيِّ مصالحةٍ بين الفرقاءِ قد يجعل من وجودها في وقت السلام غير مبرَّر، وقد تحاسبُ على ما اقترفت من جرائم إبادة جماعيَّة ضدَّ العديد من القرى بل ومخيَّمات اللاجئين أيضًا على ما ذكرت الأممُ المتَّحدةُ في العديد من التقارير في الغرض، وليصبح أحدُ قادتها الجنرال فاليري زاخاروف المستشار الأمني الخاصِّ لرئيس جمهوريَّة إفريقيا الوسطى، ويسيطر على أمن الرئيس الذي أصبح من مشمولات الميليشيا أيضا.
أصبح من مهامِّ المليشيا علاوةً على أمنِ الرئيس السيطرة على مناجم التعدين-الذهب- وقد شنَّت العديد من الهجمات على تلك المناجم خارج سيطرة الدولة، واتَّسم هجومها بالعنف والدمويَّة ممَّا خلَّف الكثير من الضحايا.
تقدَّرُ المليشيا عدديًّا في جمهوريَّة إفريقيا الوسطى في حدود ال3000 مقاتل قبل أن يسحب عدد هامٌّ منها في بداية الحرب الروسيَّة الأكرانيَّة، وقيل بأنَّها مازالت إلى الآن لا يقلُّ عدد قوَّاتها عن ألفي مقاتل، ليبقى نفوذها على الأرض قويًّا إذا ما اعتبرنا نوعيَّة التسليح ونوعيَّة الخبرات، وأيضًا السلطات الواسعة الممنوحة لمستشار الرئيس الجنرال الروسي فاليري زاخروف.
فاغنر أيضًا تقوم بتدريب الجيش، وهناك من يؤكِّد بأنَّ نفوذها في جهاز المخابرات أيضًا قويٌّ جدٌّا.
حسب المصادر الفرنسيَّة المعنيَّة جدًّا بكلِّ ما هو إفريقي -صحيفة لوموند-فإنَّ الأمريكان حاولوا الضغط على الرئيس فوستان آرشانج تواديرا من أجل إخراج الميليشيا من البلد مقدِّمين له عروضًا ماليَّة وتسليحيَّة وإمكانيَّة تعويض المدرِّبين الروس بآخرين أمريكان،وقد مُنحَ الرئيسُ مهلة بسنة-انتهت دون جواب رسمي- من أجل تنفيذ الطلب للاستفادة من الإغراءات الأمريكيَّة، أو لتلافي العقوبات الأمريكيَّةِ أيضًا والتي قد تشمله كما تشمل مسؤولين بارزين في الدولة، كما أنَّ أمريكا قد تضطرُّ إلى خفض عدد العاملين في سفارتها أيضًا إذا ما رفض الرئيس قطع علاقته بفاغنر.
12-في السودان:
تقولُ المصادر بأنَّ الرئيس السابق عمر البشير قد طلب من الروسِ في احدى زياراته لها دعمًا عسكريًّا سواء للتدريب أو التسليح، وكان من ثمرات الاتِّفاقِ أن نزلت فاغنر على الأرض تحت مسمَّياتٍ عدَّةٍ، فهي تتحرَّكُ في مختلف البلدان بمسمَّياتٍ مختلفة وليس ضرورة تحت يافطة فاغنر، ففي السودان مثلًا تواجدت تحت مسمَّى”ميروغولد”و” آم آنفست” وكان الغطاء ربَّما الإعلامي لوجودها هو مجال التنقيب على الذهب لنكتشف لاحقًا بأنَّهُ فعليًّا كان وما يزال من احدى مجالاتها، وقد تولَّت لاحقا تدريب عناصر من الجيش السوداني، وربَّما كانت السودان قاعدة خلفيَّة لتواجدها في أكثر من بلد إفريقي
13-فاغنر في مالي:
-في مالي التجأ المجلسُ العسكري الذي قادَ انقلابًا عسكريًّا سنة 2021 على انقلابٍ عسكريٍّ سابقٍ سنة 2020 إلى التعاقد مع شركة فاغنر من أجل دعمه في التدريب، وربَّما في القتال،في بلد غير مستقرٍّ بالمرَّةِ،سواء محلِّيًّا عبر التنافس على السلطة، أو من خلال الوجود القوي لجماعة القاعدة، في البداية نفى العسكريُّون الحاكمون في مالي أيَّ وجودٍ لأيِّ قوَّاتٍ أجنبيَّةٍ على أرضهم، ولاحقًا صار الأمرُ مؤكَّدًا، بل وعرف العدد الأوَّلي لتلك القوَّات، والذي قُدِّر بحوالي أربعمائةٍ من المقاتلين،ممَّا أثار غضب الفرنسيّين المتواجدين بدايةً بقوَّاتهم على الأرض في سياق ما يُسمَّى محاربة الإرهاب، والذين هدَّدوا بسحب قوَّاتهم إذا تمادى المجلسُ العسكري في التعويلِ على قوَّات المرتزقة الروس،وكذلك أغضب وجودُ فاغنر في مالي الأمريكان، وقد أصبحت إفريقيا في عمومها مطمحًا أمريكيًّا أساسًا منذ مدَّةٍ لعلَّها تريدُ من ذلك أن تخلف فيها الوجود الفرنسي التاريخي، والذي شهد خسارة أغلب مواقعه فيها، هذه الملفَّاتُ الحسَّاسةُ بالنسبة للأمريكان صارت من مشمولات القوَّة الأمريكيَّة الخاصَّة بإفريقيا المسمَّاة أفريكوم.
فرنسا رفعت أمر تواجد فاغنر إلى مجلس الأمن مدعومةً بقرار أوروبِّي وأمريكي مساند لذلك على أمل أن يصدر قرار أمميٌّ يفرض على حكَّام مالي إخراج فاغنر فورًا من البلد، إلَّا أنَّ المجلس العسكري الحاكم وبدعم من روسيا، والتي تعاونت مع الصين، تمَّ إبطال أيَّ قرار في ذلك،وفي الشهر الثامن من سنة 2022 سحبت فرنسا آخر جنودها من مالي بعد تواجد دام تسعة أعوام في إطار قوَّةِ برخان العسكريَّة ممَّا جعل وجود فاغنر في مالي منفردا،وكما هو معلوم فلن يقتصر وجودها على المجال العسكري فقط.
14-فاغنر في ليبيا:-
تقفُ فاغنر في ليبيا مع طرفٍ ضدَّ آخر، كما هيَ في باقي البلدانِ التي تتواجدُ فيها،فهي ليست جهة محايدة، أو جهة أمميَّة رسميَّة تقومُ بمهامَّ متَّفقٍ عليها دوليًّا، فهيَ أشبهُ بمليشيا أبو نضال الفلسطيني والتي رفعت حينها شعار” بندقيَّة للإيجار”.
فاغنر مع الطرف الذي تتعاقدُ معهُ، ففي ليبيا هيَ مستأجرةٌ من طرفِ الشقِّ الشرقي في الصراع الغربي الشرقي في ليبيا-تقسيم مناطقي لتسهيل الفهم- أي مع خليفة حفتر ضدَّ القوَّة الغربيَّة بالبلد-حكومة الوحدة الوطنيَّة وباقي ثوَّار الغرب الليبي-
فاغنر تتواجدُ أساسًا في محافظتي سرت في قاعدةِ القرضابيَّةِ الجويَّة بسرتْ ومينائها والجفرة في قاعتدها الجويَّة ،وتقدَّرُ عناصرها بحدودِ ألفي عنصر، وقيل كانوا في البداية في حدودِ الثلاثةِ آلافِ عنصرسحبت منهم الميليشيا أعدادًا متفاوتةً ألحقتهم بأوكرانيا، حيثُ تحتدمُ المعاركُ هناك، وأمَّا فيما يخصُّ جنسيَّاتِ المرتزقة المتواجدين على الساحة الليبيَّةِ فليسوا كلُّهم روس، بل إنَّ عددًا هامًّا منهم هم من حملةِ الجنسيَّةِ السوريَّةِ تمَّ تجنيدهم من طرفِ فرع الميليشيا المشاركِ في القتال هناك، وكذلك عناصر إفريقيَّة تشاديَّة وسودانيَّة ومن مالي، ويبدو أنَّ الميليشيا صارت تعتمدُ كثيرًا على العناصر المحلِّيَّةِ حيث تحلُّ، وتكتفي بالخبراءِ والمدرِّبينَ وما تمتلكهُ من قوَّةٍ لوجيستيَّةٍ وماليَّة،وذلك لتوسُّع أنشطتها في العالم، وخاصَّةً مع ما تتمتَّعُ به من تفويضٍ مطلق من الجهةِ التي تستضيفها على الأرض.
فاغنر وعناصرها في ليبيا يتمتَّعون بتليسح جيِّد جدًّا لا يقفُ عند الأرضي الخفيف والمتوسِّط والثقيل، والصواريخ المضادَّة للطائراتِ والمسيِّرات، بل يتجاوزُ ذلك إلى طائرات السخوي والميغ من أكثر من جيل.
يؤكِّدُ الخبراءُ كذلك على أنَّ لها أنشطةً ماليَّةً وتجاريَّةً في ليبيا، ربَّما استيرادًا وتصديرًا خاصَّةً في مجالِ الغاز والنفطِ، وللسوقِ السوداء أساسا، ولا نستبعدُ أيضًا أن تكونَ لها أنشطةٌ أخرى من أجلِ إعادة توجيهِ الرأي العامِّ لصالحِ حليفها حفتر عبر الميديا، كما فعلت وما تزالُ تفعلُ في جمهريَّةِ إفريقيا الوسطى، ولا يُستبعدُ كذلكَ بأن يكون لها أذرعٌ في المجتمع المدني، فكما أكَّدنا ونؤكِّد الآنَ هي مشروعٌ مكتملٌ وليست لا ميليشيا تقليديَّةٍ ولا شركة أمنيَّة، باختصار هيَ نقطةٌ متقدِّمةٌ للاستخبارات العسكريَّةِ الروسيَّة، أو لروسيا بكلِّ مؤسَّساتها.
15-بداياتُ التواجدِ على الأرض:
لجأ خليفة حفتر لموسكو طالبًا الدعمَ رغم حملهِ للجنسيَّة الأمريكيَّة، والتي ظهر تباينهُ معها ومع مواقفها ومع حاجاتها من البلد جليًّا مع الوقت، إذن لجأ حفتر لموسكو طالبًا الدعم فأرسلت لهُ فاغنر، وقد قيلَ الكثيرُ في بداياتِ دخولهم لليبيا، والأرجح أنَّهم دخلوا عبر الحدودِ المصريَّةِ الليبيَّة، وذلك لرصدهم –إعلاميًّا- في قواعدَ مصريَّةٍ قريبةٍ من الحدود المصريَّة قبل ظهورهم العلني في ليبيا، ولاحقًا صار وُجودهم علنيًّا ومتلفزًا،السلطاتُ التونسيَّةُ اكتشفت شحنة كبيرةً من الأسلحةِ في أكثر من خمسينَ حاويةٍ وعرباتٍ وغير ذلك من السلاحِ متَّجهةٍ إلى ليبيا على متنِ سفينةٍ رست في ميناء تونسي، وعلى الأرجح كان التسليحُ لفاغنر، تونسُ على ما أعلنت كانت قد احتجزت الأسلحةَ وصادرتها، وواقعًا نعتقدُ بأنَّ الأمر خلافَ ذلك، فمع سياسةِ الباجي رحمهُ الله، والذي حاولَ بدهائه المعهودِ ألَّا يكونَ مع أو ضدَّ أيَّ طرفٍ في الصراعِ الليبي الليبي، فكما سمحَ بدخولِ السلاح للثوَّارِ إبَّانَ الثورةِ فمن المؤكَّدِ بأنَّهُ أمر بتسليم ذلك السلاحِ لفاغنر، أو لمعسكر الشرقِ على العموم.
16-أمريكا وروسيا وجهًا لوجه:
تزايدت الزياراتُ الرسميَّةُ الأمريكيَّةُ في الفترةِ المنصرمةِ خاصَّةً إلى الشرقِ الليبي، وكان محورُ اللقاءِ على ما أكَّد كثيرٌ من الملاحظينَ هو ضرورةُ خروج ميليشيا فاغنر من ليبيا، أو على الأقلِّ سحب خليفة حفتر تفويضهُ بتواجدِ الميليشيا في ليبيا، والتخلِّي عن دعمها، والباقي يتمِّهُ الأمريكان، وقيلَ سيحسمهُ النيتو لاحقًا.
كذلك كان الغربُ الليبي وحكومةُ الوحدةُ الوطنيَّةُ أساسًا معنيّةً بهذا الملفِّ، وهي التي لم تسلم من شرورِ فاغنر التي امتدَّت أياديها لمحاولةِ احتلالِ العاصمةِ الليبيَّة ،فقد ناقشَ مدير المخابراتِ المركزيَّةِ الأمريكيَّةِ ويليامز بيرنز-في شهر يناير/ كانون الثاني- الخبير في الشان الليبي- مع عبد الحميد الدبيبه الملفَّ الإشكالَ قبل أن يطيرَ للشرق الليبي، ويلتقي بخليفة حفتر لمناقشةِ الموضوع نفسه.وقد نُسِّق لزيارةِ مدير المخبارات المركزيَّة الأمريكي لليبيا بين جملةٍ من الثوَّارِ ونجلِ حفتر صدَّام في الأردن من أجلِ تأمينهِ لزيارة الشرق والغرب، وربَّما التمهيدُ لنقاشاتٍ أوَّليَّةٍ حول ما يعتزمُ طرحهُ على قائدي المعسكرين الشرقي والغربي،ولاحقًا كان لقاءُ المدير بدبيبه متلفزًا، في حين أعلن عن زيارته لحفتر دون بثِّ أيِّ فيديو في الغرض، تماشيًا مع موقفِ واشنطن باعترافها بحكومةِ الدبيبه فقط، المعترف بها دوليًّا، وعدم شرعيَّة حفتر، إلَّا أنَّ الواقع على الأرضِ يحتِّمُ التعاملَ مع من على الأرضِ كما يحتِّمُ التعامل مع الشرعي.
17-تغيُّرُ الموقفِ الشرقي:
تتالت تلكَ اللقاءاتُ-مدير المخابرات المركزيَّة-نائبَ وزير الخارجيَّة-السفير الأمريكي-لتتوَّج على ما قيل بموقفٍ جديدٍ من حفتر، والمرجَّحُ أنَّ الأمريكان قد استلُّوا منه-أي من حفتر- موقفًا رسميًّا ملزمًا تلاهُ تصنيفُ واشنطن الميليشيا أمريكيًّا على أنَّها منظَّمة إجراميَّة عابرةٌ للحدود، ولاحقًا إثرَ لقاء قائدَي أركانِ الشرق و الغرب الحدَّاد والناظوري في طرابلس تلا ذلك لقاءهما في واشطن صحبةَ صهر حفتر وجملة من الضبَّاطِ من الجانبين ومسؤولين عسكريِّين واستخبراتيِّين أمريكان، وكان محورُ اللقاء فاغنر، وقد تسرَّب عن اللقاءِ بأنَّ الجانب الشرقي كان متساهلًا إلى حدٍّ بعيد في موضوع الميليشيا ومستقبلها في ليبيا، ربَّما مقابل مواقفَ ومكاسبَ سياسيَّةٍ وهذا غيرُ مستبعد، بل من المؤكَّد، ولكن على كلِّ حالٍ هذا تطوُّرٌ كبيرٌ في الساحةِ الليبيَّة، ولاحقًا علمنا بأنَّ قوَّاتِ طارق ابن زيادِ التي يقودها صدَّام حفتر نجل خليفة حفتر أعادت انتشارها في مناطقِ نفوذِ فاغنر، وكذلك قامت قوَّاتٌ أخرى مواليةٌ لحفتر بالشيءِ نفسهِ في مناطقَ أخرى تنتشرُ فيها الميليشيا الروسيَّة، بما ينبئُ بأنَّ أمرَ فاغنر قد حُسمَ عمليًّا ليبيًّا ليبيًّا، وتبقى الخطوةُ الأخيرة إمَّا مواجهةٌ عسكريَّةٌ معها ليبيَّةٌ على الأرض، وعبرَ النيتو من الجوِّ، أو أن تغيِّرَ موسكو من موقفها من الساحةِ الليبيَّة ولو تكتيكيًّا، وترى أنَّهُ من مصلحتها إخراجُ الميليشيا وإعادةُ انتشارها في بلدٍ آخر، وعلى الغالبِ في إفريقيا.
18-فاغنر في أوكرانيا:
الحديثُ عن فاغنر في أوكرانيا رهينٌ بالحديثِ المطوَّل والدقيقِ عن الحربِ الروسيَّةِ الأوكرانيَّةِ وحساباتها من الطرفين، ففي تلك المعركةِ يحشدُ الطرفانِ النظامي من المقاتلين كما يحشدانِ غير النظامي، ولا يمكنُ فهمُ المعادلةِ على الأرضِ إلَّا بحساب من سينتصر في الأخير، فلا حديثَ عن فاغنر هناك إلَّا عبر الحديث عن الجيش الروسي النظامي والشيشاني النظامي -الغير نظامي-، وكذلك الأوكراني النظامي وغير النظامي من المقاتلين السابقين الشيشان، والذين التحقوا بالمعركة لتصفية حساباتهم القديمة ضدَّ موسكو، والبعضُ منهم قدم لساحةِ المعركةِ من سوريا، وعليه فهذا ملفٌّ آخرُ مستقلٌّ يحتاج منَّا تحليلًا مستقلًّا بعيدًا كلَّ البعدِ عن سياقات هذا الملف.
19-ليبيا والأملُ في الاستقرار:
من المؤكَّدِ أنَّ ملفَّ فاغنر ضروري أن يناقش في ليبيا بين جميع الفرقاء قبلَ أن يناقش مع الأمريكان أو الأوروبيِّينَ أو المصريِّينَ أو الإماراتيِّينَ، أو أيَّ جهةٍ لها يدٌ مَا في الصراع الليبي الليبي، كما يجبُ أن يناقش مستقبلُ السلاح المنفلتِ بين السكَّانِ من أجل السلم الأهلي، كما يجبُ أن يناقش ملفُّ المليشيات الليبيَّةِ الأصيلةِ المتواجدةِ بكثافةٍ شرقًا وغربًا، كما يجبُ أن يناقش مستقبل الانتقال الديموقراطي في ليبيا من أجل ليبيا الجديدةِ برؤيةٍ ليبيَّةٍ خالصةٍ توَّاقةٍ للأفضلِ، ولكن هل مشروع الأمم المتَّحدةِ-مشروع باتيلي- والمشروع الأمريكي الموازي -العشريَّة- يمكنُ أن يحمل في طيَّاتهِ أمنًا واستقرارًا لليبيا؟، وقبل كلِّ ذلك هل يمكنُ أن يوجد حلٌّ لمشكل فاغنر في ليبيا؟،فاغنر التي امتدَّت أياديها حتَّى إلى العاصمة طرابلس، وإن وُجدَ فما هي الأثمانُ التي سيدفعها صنَّاعُ القرارِ في طرابلس من أجلِ إرضاءِ خليفة حفتر؟، والذي لا يبدو أنَّهُ سيقتنعُ بغير المنصبِ الأوَّلِ في البلد، وتلك قصَّةٌ أخرى.