وبدأت الحرب المنتظرة بين الحليفين القديمين، البرهان وحميدتي..
بدأت العلاقة بين الرجلين منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير، حيث تأسست قوات الدعم السريع لمساندة الجيش السوداني في قمع التمرد الذي بدأ في إقليم دارفور في بداية الألفية، واستمرت هذه العلاقة لتتقوى بداية بخلع البشير وتنصيب وزير الدفاع السابق أحمد عوض عوف حيث تنحى عن الرئاسة بضغط من حميدتي لصالح تولي عبدالفتاح البرهان حليفه السابق لرئاسة مجلس السيادة وليكون النائب الأول له، واستمرت هذه العلاقة عندما دعم البرهان قوات التحالف العربي بقيادة السعودية في قتالها ضد الحوثيين في اليمن فاشترك الاثنان في مد التحالف بالمقاتلين في صفوفه.
وقعت الحرب بعد أن افترقت أهداف الحليفين، فحميدتي الطامح في الوصول لسدة الحكم صار يتقرب من قوى التغيير العالمانية المنزع والشيوعية الهوى والمناوئة لثوابت الإسلام في السودان ويعرض نفسه أنه الحامي لها من جنرالات الجيش الذين تصنفهم هذه القوى السياسية الجديدة على أنهم إسلاميون راديكاليون شكلتهم الحركة الإسلامية التي كانت تسيطر في العقود السابقة.
وأما البرهان فهو ابن المؤسسة العسكرية التي لها جذور وحضور في الوجدان السوداني عبر قرن من الزمان، وهذه المؤسسة مهما اتخذ بعض جنرالاتها من المواقف تبقى قطب رحى آمال السودانيين في صد الأخطار عن بلادهم من التقسيم والتفتيت والتدخلات الأجنبية، فموقف هذه المؤسسة مبني على أن قوات الدعم السريع ما هي إلا قوة أنشئت بقانون لمساندة القوات المسلحة السودانية وتأتمر بامرها لا أن تكون مناوئة لها، فما فعلته قوات الدعم السريع يصنف تحت خانة التمرد العسكري المسلح على الدولة وجيشها.
من يدعم حميدتي والبرهان؟
اما داخليا فحميدتي سليل القبائل العربية في دارفور، وقوات الجنجويد التي كان يقودها تتكون من تلك القبائل والمناطق، ثم توسعت بضم أفراد من مكونات اخرى، لكن يبقى عصب هذه القوات محسوبا على مكون محدد، ومن الطبيعي أن يتلقى الدعم من هذا المكون، وفي الآونة الأخيرة وبعد التناغم بين قوى التغيير وحميدتي صارت هذه القوى ظهيرا له سياسيا وإعلاميا. كما ان سيطرة قوات الدعم السريع على عدد من مناجم الذهب المهمة تؤمن لهذه القوات مصدرا مهما للاموال.
وخارجيا فتعتبر روسيا من أهم حلفاء حميدتي، حيث قام بزيارة لها واستقبل هناك كأهم شخصية سياسية سودانية، وعلى الأرض يعتبر حميدتي الحاضنة المحلية لقوات الفاغنر والتي تنشط في دول وسط أفريقيا، حيث تقوم بتحويل الذهب المستخرج من مناجم شركة (الجنيد) في جبل عامر بدارفورإلى روسيا لدعم الاقتصاد الروسي في الحرب التي تخوضها بأوكرانيا، ولا ننسى اشتراكهما في دعم حفتر في ليبيا كمرتزقة قاتلوا جنبا إلى جنب على أسوار العاصمة طرابلس قبل أن تفر هاربة على وقع ضربات البيرقدار التركية من الجو وبنادق الثوار على الأرض.
من الداعمين لحميدتي خارجيا دولة الإمارات، حيث يعتبر الرجل المناسب والذي دعم بالشراكة مع البرهان التحالف العربي في اليمن ضد الحوثيين، لكنه يعتبر أقرب لمحمد بن زايد من البرهان لكونه شخصية ليس لها إيديولوجية محددة، فيسهل توجيهه لضرب من تعتقد الإمارات أنهم لا زالوا يحتضنون الإسلاميين في السودان، وليكون مناصرا للقوى المدنية العالمانية الجديدة لإحكام السيطرة وفرض التغريب وسلخ السودان عن ثوابته الإسلامية.
ودعم الإمارات يتمثل في تسهيل أعمال شركة (تراديف) التابعة لشقيق حميدتي القوني دقلو وتحويل الأموال عن طريقها إلى قوات الدعم السريع كما أثبت التحقيق الاستقصائي الذي أجراه موقع قلوبال ويتينس.
يوجد حليف مهم لحميدتي وهو أثيوبيا، والتي تحتضن استثماراته هو وإخوته حيث يديرها رجل أعمال سوري اسمه محمد عبد الحليم ، وعندما زار حميدتي أثيوبيا أول مرة سنة 2020 وقع شقيقه القوني دقلو مع حاكم بحر دار الأثيوبية اتفاقا للتنقيب عن الذهب بالاقليم حسب موقع مونت كاروو السوداني.
وواضح من الزيارات المتكررة لحميدتي لأثيوبيا والحفاوة التي يجدها من الرئيس الاثيوبي آبي احمد – الذي قال في بيان استقبال حميدتي: إن أثيوبيا هي بلده الثاني – أن العلاقة ليست مجرد علاقة دبلوماسية رسمية وإنما وراءها الكثير مما ستكشف عنه الأيام، ولا ننسى أن حميدتي امتنع عن التدخل في أزمة المناطق الحدودية بين أثيوبيا والسودان في منطقة الفشقة في ديسمبر 2020 بتعِلَّةِ أن قواته ليست جاهزة.
وهذا ما يفسر الانحياز المصري للبرهان والقوات المسلحة السودانية وهجوم قوات الدعم السريع على مطار مروي وتدمير الطائرات المصرية واعتقال الجنود المصريين.
من هم حلفاء البرهان؟
تعتبر المملكة العربية السعودية الحليف المعلن للبرهان والجيش السوداني، وذلك لاستجابته للتحالف العربي بقيادة المملكة السعودية في حربها على الحوثيين في اليمن، والموافقة على إرسال آلاف الجنود السودانيين، ولسبب آخر مهم للملكة وهو من ضمن الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية لها وهو المحافظة على أمن البحر الأحمر، الذي يعتبر طريقا لتصدير جز كبير من النفط السعودي على اعتبار أن أي اضطراب على ضفافه يصل بتأثيره للدول الاخرى، وخصوصا وهي تؤمل في جعل المنطقة قابلة لتحقيق رؤية المملكة 2030.
من حلفاء البرهان والجيش السوداني مصر، وهي الدولة التي تعتبر السودان عمقا استراتيجيا لها، وترى أن مؤسسة الجيش في السودان هي القادرة وحدها على المحافظة على المصالح المصرية، فلا تضمن مصر أي قوة بنيت على الولاء القبلي وتأسست على النظام الميليشياوي أن تتلاعب بها دول تهدد المصالح المصرية كأثيوبيا، وكما علمنا سابقا فحميدتي له صلات وثيقة بنظام أديس أبابا.
ومهما قيل عن الجيش السوداني من تغلغل الإسلاميين فيه وعلاقتهم به فإن مصر مكرهة أن تغض الطرف عن ذلك، فكما قال ابن الحسين:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى** عدوا له ما من صداقته بدُّ.
الولايات المتحدة الأمريكية!!
من الثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ما قاله مهندس السياسة الخارجية الأمريكية هنري كسينجر: “ليس من مصلحة أمريكا إيجاد حل لأي مشكلة في العالم، هي فقط تمسك بخيوط المشكلة ثم تحركها وفقاً لمصالحها”.
تعتبر الولايات المتحدة السودان من الدول التي حاولت تأسيس نظام خارج عن بيت الطاعة الغربي، وبعد سقوط رأس النظام في السودان لا زالت تضغط باتجاه تغيير العقيدة السياسية للدولة السودانية والعقيدة العسكرية للجيش السوداني، ومن هذا المنطلق نراها تدعم وبقوة التيارات السياسية الاشتراكية والعالمانية المدنية لتستلم زمام الأمور وتخرج الجيش والتيارات الإسلامية من اللعبة برمتها، ولكون الأمر يحتاج لظهير يمتلك القوة التي تنفذ ربما تجد في حميدتي الخيار الأمثل لتحقيق ذلك، وقد رأينا تصريحات وزير الخارجية الأمريكي التي تسوي بين طرفي الصراع على أنهما متكافئان، لا على أن حميدتي نائب منقلب على رئيسه ولا على أن قوة الدعم السريع قوة مساندة للجيش السوداني منقلبة عليه بدل أن تكون تابعة له.
ومن جهة أخرى لا يخفى على أمريكا العلاقات القوية بين حميدتي وروسيا والتي تتجلى على الأرض في استخراج الذهب وبيعه لروسيا عبر قوة فاغنر المنتشرة في المنطقة، فمن حيث التوجه المعلن لامريكا فإن حميدتي يعمل على تقوية المحور الروسي، فيكون من المنطقي تسهيل إخراجه من المشهد ، ومن جهة أخرى تولي حميدتي لزمام الأمر في السودان يسهل ويسرع من تغيير كبير في العقيدتين السياسية والعسكرية للدولة السودانية وجيشها، واستمرار الصراع ربما يوفر لصانعي القرار في الولايات المتحدة الوقت الكافي لتحليل الوقائع واختيار أفضل البدائل.
فرنسا وهي اللاعب الأساسي تقليديا في افريقيا أيضا ترى في انتصار حميدتي انتصارا للفاقنر التي اخرجتها قسرا من معاقلها التقليدية في افريقيا وبالتالي فهي ترى نفسها مجبرة على دعم الجيش السوداني ولو عن طريق احد ادواتها في المنطقة المتمثلة في الرئيس التشادي دبي
المعركة الصفرية وانعكاساتها على ليبيا..
الصراع المحتدم في السودان الآن لن يحسمه على الأغلب إلا قضاء أحد الطرفين على الآخر، لا أقول البرهان على حميدتي أو العكس، بل القوات المسلحة على قوة الدعم السريع أو العكس، والذي يعتقد كثيرون أنه سيكون لصالح القوات المسلحة، لكن تصور سيناريوهين لهذه المعركة الصفرية يجعلنا نقيم النتائج المتوقعة على الامن القومي الليبي.
السيناريو الأول: انتصار حميدتي وقوة الدعم السريع وسيطرته على القرار منفردا أو بمشاركة القوى المدنية العالمانية إماراتية الهوى، فإن المنطق يقول: سيكون هذا دافعا أكبر لقوات المرتزقة التابعة له في ليبيا ولقوة الفاغنر للتمركز في الجنوب والوسط الليبي، والقيام بمزيد من عمليات تهريب الوقود والأسلحة والأفراد، وهذا يصعب من مهمة إخراج المرتزقة من ليبيا والتي هي من صميم اعمال لجنة 5+5 ومن أهم بنود خطة ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا عبدالله باتيلي.
السيناريو الثاني: لا يقل عن الأول في ارتداداته على الواقع الليبي، حيث إن هزيمة حميدتي وانكسار قواته – كما يتوقع أغلب المحللين للشأن السوداني – لن تجد هذه القوات ملاذا آمنا وقاعدة مجهزة بالموارد والحلفاء تنطلق منه لتنفيذ عملياتها على القوات المسلحة السودانية مثل جنوب ووسط ليبيا، وهذا يوقع ليبيا في مشكلتين خارجية وداخلية، فأن تكون الأراضي الليبية منطلقا لعمليات تهدد دولة جارة يجعل من هذه الدولة خصما يعامل بالمثل ويعمل على تهديد المصالح الليبية أكثر، والمشكلة الداخلية هي أن يعيث هؤلاء المرتزقة في الجنوب الليبي الذي يتحركون فيه فسادا، بانتشار الجريمة والمخدرات وتجارة السلاح والوقود وتهريب المهاجرين غير الشرعيين وقد يصل الأمر إلى السيطرة على حقول النفط ومناجم المعادن الثمينة، وحسبك من شر سماعه.
وقد يكون هناك سيناريو ثالث وهو استمرار الصراع وتحويل السودان الى صومال اخر وقد يكون هذا هو الهدف الغير المعلن للعديد من الأطراف الدولية التي باتت تنتهج سياسية تدمير الدول ان لم يمكن السيطرة على شعوبها بواسطة العملاء المحليين وهذا السيناريو خطير أيضا على الوضع في ليبيا
حميدتي .. بين حفتر والسيسي..
من المعروف لدى الجميع استعانة حفتر بمرتزقة الجنجويد التابعة لحميدتي في حربه التي أشعلها في شرق ليبيا وغربها، فلم يستطع السيطرة على الموانئ النفطية في البريقة وراس لانوف والسدرة وهزيمة قوات حرس المنشآت إلا بالاستعانة بالطيران المصري من الجو وبمرتزقة الجنجويد على الأرض، ثم كانت هذه القوات ضمن القوة التي هجم بها على العاصمة طرابلس، وبعد أن تراجعت هذه القوات توزعت في الجنوب الليبي ولا زالت تتلقى الدعم منه.
وهذا التحالف الذي ترعاه الإمارات لا بد له من ثمن يدفع بالمواقف، ولهذا لم نستغرب تسريبات ال(وول ستريت جورنال) بأن حفتر ارسل على الأقل طائرة واحدة محملة بالعتاد العسكري والذخيرة لقوات الدعم السريع، وهذا الأمر يضع حفتر في موقف محرج مع صديقه السيسي، فلعبة التحالفات المتناقضة لا يمكن لمغلوب على أمره كحفتر أن يلعبها مع من يملكون التأثير المباشر على الحاضنة الشعبية والعسكرية في برقة، وهذا الأمر قد يجعل من المخابرات المصرية تفكر باستبدال الجنرال ذي الثقافة السياسية الضحلة ولو بأحد أبنائه، ولعل مستشاريه نصحوه بالمسارعة لنفي الأمر برمته، ولا زالت الأحداث حبلى بالمفاجئات.
القرار الحكيم المنتظر..
من الأمور المتفق عليها عند حدوث صراعات وحروب داخلية في دولةٍ ما هو انعقاد الاجتماعات على أعلى مستوى في الدول المجاورة لتقدير حجم الخطر المتوقع على هذه الدول واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لمواجهة التداعيات المتوقعة جراء هذه الحرب.
في ليبيا الوضع مختلف قليلا، فلا زالت آثار الحروب والصراعات السابقة موجودة ولا زال الانقسام العسكري والسياسي قائما، وهذا أكبر تحدٍّ للدولة الليبية المنقسمة أن تواجهه، ولعل المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة بتوحيد المؤسسة العسكرية والمسارعة بإجراء الانتخابات واختيار سلطة سياسية موحدة للدولة يعجل باتخاذ إجراءات مستعجلة بإنشاء قوة مشتركة من الغرب والشرق لتعيد انتشارها في الجنوب الليبي على طول الحدود السودانية والتشادية، وتكون جاهزة لمواجهة أي تهديد للحقول النفطية المنشرة في الجنوب.
وكذلك النأي بالدولة الليبية عن الانحياز لأحد طرفي الصراع في السودان، وتقديم المساعدة للنازحين من الشعب السوداني داخل الأراضي السودانية وذلك بتوفير المؤن والدواء.
والسؤال الذي يقفز من بين السطور: هل سيسمح حفتر للدولة الليبية بالقيام بما يقع على عاتقها من مهام؟ أم أنه سيستأثر بالأمر ليجد الليبيون أنفسهم أطرافا في صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل؟
نراقبُ لنرَ.