يعيش العالم العربي هذه الأشهر ذكريات انطلاق ثورات الربيع العربي التي بدأت بشهر ديسمبر 2010، بتونس، ثم تلتها الثورة المصرية والسورية في الشهر الأول من العام التالي، ثم الثورات الليبية واليمنية في فبراير من نفس العام.

ومن أكثر الاسئلة إلحاحا لدي جميع شرائح تلك المجتمعات، وغيرها ممن كان ينظر الى تلك الثورات بعين الفخر والاعتزاز باعتبارها المفتاح الذي امتلكته الشعوب لأبواب الحرية والانطلاق نحو البناء.

أقول من ألح الاسئلة هو: ما هو الخيار الأفضل الذي كانت ستنتهجه الشعوب الثائرة في تلك اللحظة لو كانت تدرك أن مصير ثوراتها سيكون ما هو عليه اليوم؟! وبصياغة أخرى للسؤال: لو استقبلت الشعوب من أمرها ما استدبرت، هل كانت ستثور على الأنظمة الاستبدادية؟ أم أنها ستتجرع مر الاستبداد، وترضى بما قسم لها لأن ذلك أفضل لها مما تعيشه اليوم، في واقع لم تجد حتى المر لتتجرعه، ولم يقسم لها فيه الا المزيد من القهر والتفرق والهوان؟

أهمية هذا السؤال لا تكمن في كونه محطة مهمة للمراجعة والمحاسبة، بل لأنه غدا سوطا حادا يرفعه خصوم الثورات، ومنظرو الاستبداد الذي لم يعودوا يخفون الشماتة وادعاء الأستاذية وفقه الاستشراف، قائلين، أليس من الأفضل و الأرحم ترك الأنظمة الشمولية، بما فيها من شر من أجل المحافظة على الأوطان وضرورات الحياة من الأرواح والدماء والأموال وغيرها.

بل لتصبح هذه الحجة منهجا يرسخ وجوب الرضى بكل حال عدا الثوران على الواقع، أو محاولة تغييره، ليغدو هذا المنهج ثابتا وطنيا يموت عليه الكبير ويشيب عليه الصغير.

من السهل جدا الإجابة على هكذا سؤال إذا تجرد صاحبه من التعصب والهوى -وأنى للشعوب بهذا التجرد ولا نخفي صعوبة إقناع غير المتجرد بإجابة نظرية تناطح فيها القيمُ والمبادئ، الأمورَ الحسيةَ المشاهدة.

الإجابة تكمن في أن إقناع الشعوب – فضلا عن قناعة النخب- بأن ثمة ثنائية وحيدة تشكل المشهد العام الدائم في الأوطان الإسلامية، وهي ثنائية ( الاستبداد أو الفوضى)، هذا الطرح هو غلط شنيع في حد ذاته، وجريمة منهجية في نظم التفكير السياسي، وبروزه وطرحه قطعا ليس بريئاً و لا عفوياً، بل هو طرح ممنهج أعده من صنع الطغاة وسلطهم على رقاب الشعوب المستضعفة، طوال أكثر من نصف قرن، ثم أقنع تلك الشعوب أنها تحي في بحبوحة من العيش، مادامت تأكل الطعام وتمشى في الأسواق، وتتزاوج وتقرأ وتتخرج، بل وقد يتوفر لها هامش من الحرية السياسية فتستطيع به أن تنتخب الرئيس بأصوات 99.9‎%‎، أو تجلس لتقرر مصيرها في مؤتمرات شعبية حرة تمثل الحل النهائي لمشكل الديمقراطية.

إن من سلط تلك النظم الاستبدادية على رقاب الشعوب، هو نفسه من أراد أن يجعل مصيرها الفوضى لو ثارت، وليرسم صورة الدولة الفاشلة المرعبة، ليؤكد للناس عبر الدروس العملية أنه ليس أمامهم الا جزرة الدكتاتور أو عصا الفوضى.

وقد نجح إلى حد بعيد في ذلك، وبأياد محلية الصنع، أكثرها كانت هي أدوات الدكتاتور في تدجين الشعوب.

أما الإجابة المتجردة التي تناسب كرامة الانسان، وتتناسب مع فطرة الحرية التي ولدتهم عليها أمهاتهم، فإنها تدل على أن هناك أوضاعا أخرى غير هذه الثنائية المشؤومة، وتلك الأوضاع هي الأصل الطبيعي في حياة البشر، وهي أوضاع الحرية والأمن والاستقرار وامتلاك القرار السياسي والسيادة.

إن الرياضيات علم إنساني بشري، لا هوية له ولا عقيدة فلماذا تقبل الأوضاع القسمة على أكثر من اثنين في المجتمعات الأخرى ممن تسمى العالم الحر، ولا تقبل القسمة الا على اثنين في بلاد المسلمين هما الاستبداد والفوضى.

 

ربما من حق القارئ البريء أن يضيف سؤالا تابعا وهو: أولم تدرك الشعوب-قبل ثورانها-  أن ما ينتظرها هو أشد مما هي فيه تحت وطأة الاستبداد،  فتتجه بسفينتها نحو الحرية المنشودة، والسيادة المرغوبة؟ بدلا من تركها تسبح لتغرق في وحل الفوضى؟

فيجاب: بلى أدركت الشعوب ذلك، وكانت في غاية الوعي له، واتخذت ما كان بيدها من أسباب لكن الرياح الخارجية كانت أقوى، والمناعة الداخلية كانت أضعف بكثير. وطبيعي أنه ليس ثمة ذنب للطبيب الجراح الماهر الذي اقتلع الورم الخبيث، ووصف للمريض الدواء المناسب، وزوده بالنصائح اللازمة، ثم تدهورت حالته الصحية، وربما مات نظرا لتغيرات الأجواء الطارئة أو انهيار وقع في مناعته أو انتشار مفاجئ لفيروس معد أو غيره.

إن طريق استقرار الشعوب وانتقالها من نظم دكتاتورية كانت تمثل المشروع الاستعماري في إخضاع الشعوب الإسلامية، الى حالة التحرر الشامل من التبعية، وامتلاك الصادقين من أبناء البلاد الإسلامية والعربية لكامل إرادتهم وقرارهم، لابد أن يمر على طريق طويل مليء بالعقبات والنكسات والنجاح والإخفاق، لكنه سينتهي حتما بالنصر مالم تصل الشعوب الى الياس والقناعة بالثنائية المزورة.

لقد انتقلت اوروبا وتمثلها الثورة الفرنسية من الملكية الكهنوتية الى الحرية المتحللة، ومن رأي الكنيسة الأوحد المستبد الى حرية الآراء والممارسات التي كسرت حدود الفطرة والانسانية، عبرت ذلك خلال أكثر من عقد من الزمان وسالت فيها دماء اكثر من مئتي ألف في متوسط التقديرات.

واليوم لو خيرت هذه الشعوب الأوربية بين العودة الى فترات الاستبداد وبين أن تضحي بأضعاف ما بذلته من دماء أبنائها، لاختارت الثانية بلا تردد.

لأنها ألغت من قواميسها مفردات الاستبداد لشعوبها، وإن قبلتها بكل أريحية إذا كانت مصدرة للشعوب الأخرى مثلها مثل كل شعاراتهم من حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية وغيرها، والتي ظهر تعريفها العملي عندهم في العدوان على غزة وسوريا وغيرها من بلاد المسلمين.

 

لابد من الاعتراف أن بعض شرائح الشعوب الني ثارت على الاستبداد والشمولية في ثورات الربيع العربي تتحمل جزءا مما وصل إليه الحال،  سواء كان ذلك بسبب بساطتها في التعاطي مع أمور قيادة الدول، او التساهل مع خصوم الحرية أو عكس ذلك، أو عدم تقدير عمق تمسك الدول الخارجية بالوضع التبعي للشعوب، أو لتولي  من لا يحمل قيم الحرية لمسؤوليات انحرف بها أو غير ذلك، لكن الذي لا يمكن إلا التسليم به هو أن المسؤولية الكاملة تقع على النظم الاستبدادية التي احتكرت كل شيء وحرصت على تقليم أظافر الشعوب من أي شيء يصلح للبناء يوما ما الا ما يسخر تلك الشعوب لمزيد من التسليم لهم.

وإن التراجع عن القناعة بأحقية الشعوب في العيش، كباقي بني آدم في الأرض احرارا يمتلكون قرارهم وكرامتهم وأرضهم لهو اسوأ ما يمكن أن تثمره هذه الثورات لو وقع.

والحقيقة أن كمية الطاقة التي بثتها هذه الثورات في نفوس الشعوب، والمخزون التراكمي الضخم للتضحيات والآلام والذكريات لتبشر بأن هذه الشعوب لن تكتفي بهذه الثنائية- وان تخيل الآخرون ذلك- ومن جرب يوما أن يقتل الدب بعصا فستترسخ قناعته بقدرته وإمكانياته ولن تزيلها نطحة ثور هائج أتاه على حين غرة.